الوضع المظلم
الأحد ٠٨ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
في سوريا: ممنوع حتّى الهمهمة عند الألم
عبير نصر

مما لا شكّ فيه أنّ سياسة تكميم الأفواه في سوريا بذريعة "القداسة" التي يحظى بها هذا الرمز أو ذاك، هو الاستبداد بعينه، لكن الإشكال الذي يُطرح، ومنذ خمسة عقود: من يحدّد مفهوم النظام العام ومتى يتعلق الأمر باستهدافه، ومتى لا يكون هناك استهداف، ومن الذي يحدّد هل هذه الشخصية تصنف في خانة "القداسة" أم أنه لا يجوز تصنيفها؟.

في وقتٍ قدمت فيه السنوات العشر المنصرمة مثالاً قوياً على تنامي الاستبداد في الفضاء السوري الإلكتروني، بحكم كونها مصممة لمراقبة وترهيب الناس، وإعادة تأسيس وتوسيع مناخ الخوف والقمع الموجه ضد المواطنين، المعارضين منهم خاصة. وبالفعل النظام السوري لديه أسباب تدفعه للخوف من مواطنيه، حيث تناولت "دويتشه فيلي" في تقرير إعلامي أنّ السلطات السورية دفعت نحو مليون يورو لشركات غربية من أجل مراقبة المحتويات المنشورة على الإنترنت ومتابعة الناشطين. بطبيعة الحال لم يكن إعادة التذكير بعقوبات "جرائم المعلوماتية" منذ أيام على موقع وزارة الداخلية من قبيل الصدفة، فعملية التضييق على السوريين تتصاعد، والتهمة جاهزة "إضعاف الشعور القومي" أو "وهن نفسية الأمة السورية".

والتهم المعلبة لم تعد تتعلق بتجاوز الخطوط  الحمراء التي تمسّ عادة شخص الرئيس والأمن والجيش كما جرت العادة، بل من الممكن أن يعرضك اليوم الحديث عن نقصٍ في توريد جرّات الغاز أو انقطاع الكهرباء، أو ارتفاع أسعار الخبز والأدوية والبنزين، إلى الاعتقال. ففي سوريا ما زال الحاكم يضمن لنفسه القوة المطلقة الخالصة في التحكم في كلّ شيء، دون الرجوع لمواطنيه أو للأطر التشريعية المقرّة، فهو فوق الناس والقانون، بينما السوريون ممنوع عليهم الهمهمة حتى في نوبات الألم الشديد.

وفي التفاصيل، هددت وزارة داخلية النظام السوري بملاحقة كلّ من يضع إعجاباً، أو يكتب تعليقاً على عددٍ من الصفحات والحسابات على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك إمعاناً في سياسة تكميم الأفواه، لإخراس الأصوات التي تطالب بمكافحة الفساد والفقر والإذلال. وتعزز مسلسل الرعب هذا عندما أصدر بشار الأسد المرسوم التّشريعي رقم (17) للعام 2012 المتّعلق بتطبيق أحكام قانون التّواصل على الشّبكة، ومكافحة الجريمة المعلوماتيّة والمتضمّن (36) مادة. ويهدف المرسوم إلى تنظيم التّواصل على الشّبكة، وتوصيف الجرائم المتّعلقة باستخدام شبكات المعلومات، كما يفرض عقوبات جزائيّة على من يرتكب الجريمة المعلوماتيّة، ليصل بعضها إلى سبع سنوات سجن، وغرامات مالية منها ما وصل حتى 10 ملايين ليرة.

وفي هذا السياق حذّرت وزارة الداخلية من أنّها ستلاحق كل من يقدم على ارتكاب الأفعال التي يحكمها قانون الجريمة المعلوماتية، وأهابت في بيان على فيسبوك بروّاد مواقع التواصل الاجتماعي توخي الدقة والحذر والابتعاد عن التواصل مع الصفحات المشبوهة والتي لها ارتباطات خارجية، أو التفاعل معها، أو تزويدها بمعلومات، أو نشر وتداول أخبار كاذبة حتى لا يتعرضوا للمساءلة القانونية. ولأجل هذا عيّنت وزارة العدل في حكومة النظام السوري (58) قاضياً للنظر في الجرائم المعلوماتية، دون التصريح عن أسماء القضاة المختصين، أو الإعلان عن درجات المحاكم التي يتولونها.

"وهن نفسية الأمة"، ثلاث كلمات بسيطة ممكن أن تضع أيّ سوري، مهما علا شأنه، داخل السجن، إذ باتت تهمة شائعة، وموجهة بشكل خاص لمعتقلي الرأي، حتى قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي. دعونا نتذكر حوادث اعتقال المذيعة في التلفزيون السوري هالة الجرف، وكلٍّ من "كنان وقاف" و"وضاح محي الدين"، جرّاء نقد فساد النظام في مناطق سيطرته، والحجة دعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي، ونقل أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة، وفق قانون الجرائم الإلكترونية، على حدّ وصف وسائل إعلام موالية للنظام السوري. كما اعتقل "يونس سليمان"، مدير "مواطنون مع وقف التنفيذ"، بعدما نشر على صفحة الموقع  تدوينة تتهم بثينة شعبان، بالفساد الصريح.

ووفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن (707) بين صحفي ومواطن صحفي، قتلوا في سوريا منذ مارس/آذار 2011، 78% منهم قضوا على يد قوات النظام السوري، كما أشارت الشبكة إلى أن هناك أكثر من (400) صحفي ومواطن صحفي، معظمهم معتقلون لدى النظام السوري، لأنهم فقط فضحوا كلّ خفايا قبح الديكتاتورية، التي تواري وراء مظهرها "القوي" كل عيوب البشاعة والدمامة والضعف، والأمراض النفسية والجسدية. وقالت منظمة "مراسلون بلا حدود"، في تقريرها السنوي عام 2020، حول حصيلة الانتهاكات المرتكبة ضد الصحفيين في العالم: "إن سوريا ما زالت واحدة من أكبر سجون الصحفيين في العالم، للعام الثاني على التوالي، وجاءت في المرتبة 174 من بين 180 دولة من حيث النتيجة الإجمالية في مؤشر حرية الصحافة العالمي، كما ما تزال تتصدر المؤشر من حيث كمّ الانتهاكات وأعمال العنف ضد الصحفيين، لتأتي في المرتبة الأولى بنسبة 82.05".

وفي الحقيقة، وحتى عهد قريب، كان بعض الصحفيين يحظون بامتيازات عديدة، حيث قامت المخابرات السورية بانتقائهم وسمحت لهم بدخول مناطق القتال، شريطة أن يكون لهم دور رئيسي في التغطية الإعلامية المروجة للرواية الرسمية. ولاحقاً الصحفيون أنفسهم حاولوا استغلال شهرتهم واتصالاتهم مع شخصيات نافذة، لتسليط الضوء على قضايا متعلقة بسوء الأحوال المعيشية والفساد للتأثير في الرأي العام، بيد أنّ ردّ السلطات والأجهزة الأمنية جاء ليذكرهم بأن حدود النقد لم تتغير في سوريا، ولعل أدلّ مثال على هذا اعتقال مراسل قناة "العالم" الإيرانية، ربيع كله وندي، ويعتبر من أكثر الإعلاميين السوريين تأييداً للنظام وعمليات قصف المعارضة. أيضاً إقصاء العديد من الإعلاميين الذين رافقوا عمليات قوات الأسد ومليشياته في سوريا، ومن بينهم "وسام الطير"، مدير صفحة دمشق الآن، كذلك إقالة مراسل قناة "العالم" اللبناني حسين مرتضى، وتسريب مقطع صوتي يكشف عن إقامته علاقات غير شرعية، مع عدة صحفيات.

ثمة عوامل عدّة جعلت النظام السوري منظومة صلبة عصية على الاختراق، أهمها أنه لا يتوانى عن اعتقال شعب بأكمله إن انتقد الفساد وتألم من الجوع، في وطن تحوّل إلى سجون مظلمة شاهدة على بلاهة المستبد وفياض وقاحته وتضخيمه لذاته الخاوية، المسكونة بالخوف الدائم، بينما يسوّق نفسه على أنه سلطة مقدسة ومطلقة، وليست محل اعتراض أو شكّ، فالسوريون بنظره قاصرون وينبغي الحجر عليهم، بحكم أنهم لا يستطيعون تدبير شؤونهم بأنفسهم، وعبرت عن هذه الرؤية مقولات من مثل: "طلبنا من الله المدد فجاءنا بحافظ الأسد". جملة شهيرة قالها تجار الشام بعد "الحركة التصحيحية" التي قام بها الأسد الأب. أما عن كيفية سقوط المستبد، فهناك وصفة سحرية مفادها: "لا تخلعوه، فقط كفّوا عن طاعته وسترونه يسقط كتمثال ضخم أزيحت قاعدته فهوى وتحطّم". لكن الإشكال حتى اللحظة، وفي ظلّ فصول الرعب لزمنٍ بوليسي آثم، هو صعوبة إقناع الشعب السوري بأن ثمن الاستسلام للعبودية هو أغلى بكثير من المواجهة. مواجهة ستقع، إن آجلاً أم عاجلاً، فسياسة تكميم الأفواه من قبل نظام يستخدم كافة الوسائل الأمنية والإعلامية، لترهيب السوريين وبناء جدار عازل للصوت في الحناجر المتعبة، ما هي إلاّ وقوداً سيعجل من انفجارٍ مهما طال أمده، ومن يدري كيف سيكون الانفجار القادم.  

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!