الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
غزوات بوتين.. من أوكرانيا إلى سوريا وبالعكس
درويش خليفة

لم يجرؤ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غزواته خلال العقد الأخير سوى بعهد الإدارات الديمقراطية في البيت الأبيض، حيث اجتاح جيشه شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014 في أكبر عملية قضم أراضٍ شهدها الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من توقيع بلاده اتفاقية بودابست للضمانات الأمنية التي تتعلق بالسلاح النووي الأوكراني عام 1994، الأمر نفسه ينطبق على تدخل القوات الروسية في سوريا، سبتمبر 2015، وكلا الغزوتين كانتا في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما.

اليوم، وفي ظلّ إدارة الرئيس الديمقراطي "جو بايدن"، يحشد بوتين ما يزيد على 100 ألف جندي روسي على بعد كيلومترات من الحدود الأوكرانية، مسبباً بذلك أزمة أمنية جيوسياسية تنعكس آثارها على قطاع واسع من العالم؛ وبشكل واضح سيكون للحرب تأثيراً على الأمن الغذائي للعديد من الدول التي تستورد القمح الأوكراني، خصوصاً في الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافة إلى إندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش جنوب شرق آسيا.

وتتركز المناطق الأكثر إنتاجاً للقمح في الجزء الشرقي من أوكرانيا، والتي من المحتمل أن تكون نقطة الانطلاقة لغزوة الجيش الروسي الجديدة، غير أن الآليات الروسية تتوزّع على طول الحدود الأوكرانية.

إذن، يمكن تفسير غزوات بوتين تلك، بناءً على سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وتراجع اهتمامها ببعض المناطق التي كانت ضمن النطاق الجيوسياسي لمصالحها، مثل الشرق الأوسط وأفغانستان، وتركيزها على تنامي دور الصين، بل أكثر من ذلك، يراقب بوتين بنظرة استخباراتية مجريات الملف النووي الإيراني، وعلى إثرها يحدّد مدى قوة الفريق الأمريكي، وإذا ما كانت الفرصة سانحة لإظهار المزيد من القوة والغطرسة العسكرية لجيشه وتجريبه لصواريخ جديدة فوق رؤوس السوريين أو الأوكرانيين، واكتفاء الإدارة الأمريكية الحالية بالتحذير وتزويد حلفائها ببعض الذخائر التي لا تردع القوة العسكرية للروسية.

وفي ظلّ تدهور الاقتصادات الدولية التي صاحبت وباء كورونا، لا يمكن أن نحسُب لواشنطن إيقاع روسيا في حروب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى محيطها الجغرافي، من مبدأ إرهاقها اقتصادياً، لأن الروس في كل من الحالتين السورية والأوكرانية لم يواجهوا مقاومة حقيقية، بل استخدموا أسلحتهم المتطورة كقوة تدميرية لقتل وإرهاب المناهضين لحلفائهم، وبالتالي قاموا بتسويقها وبيع كميات كبيرة منها.

يدرك الرئيس الروسي بالضبط ما يفعله، ولا يوفر أياً من الفرص الممكنة للعب على حبال التناقضات الإقليمية؛ فما أكثر المختلفين، وما أشد الحاجة لتبريد الجبهات، ولمن يرسم خطوط الفصل بينها.

وبالفعل نجحت موسكو نسبياً في لعب هذا الدور من خلال رسمّ خطوط الاشتباك على الجغرافيا السورية، لكنها بالمقابل أخفقت في جوانب كثيرة أيضاً، فمن ناحية لم تستطع منع إسرائيل من استهداف المليشيات الإيرانية والنظام السوري في معظم الأحيان، وكذلك لم تفلح بمنع تخطي الأتراك والفصائل الحليفة لها شرق الفرات والسيطرة على المناطق الحدودية، ولكن الفشل الأكبر بالنسبة لها يتمثل ببقاء مقعد سوريا معلقاً في مجلس الجامعة العربية، بعد محاولة حثيثة من مبعوث بوتين "لافرنتييف" لإقناع ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" من أجل عودة النظام للجامعة، إلا أن محاولته لم يكُن لها صدى في الرياض.

دعونا نسأل، هل يحتمل الاقتصاد الروسي مزيداً من العقوبات والخسائر المتلاحقة التي كلفت ملياري دولار في حربه بسوريا واجتياح القرم، واقتصادها ليس من بين العشرة الأوائل؟

من الواضح أنّ روسيا لم تتأثر بالعقوبات الغربية عقبَ قضمها لجزيرة القرم، حتى وإن تهالك الاقتصاد وساءت الظروف المعيشية للشعب الروسي، كل هذا لن يثني بوتين عن طموحه الأمني الذي واكبه والقادة القوميون منذ زوال الاتحاد السوفياتي، وهو مطمئن أن الداخل الروسي لن يتحرك ضده ولو أكل التراب، بعد إقصائه كل الفرص لظهور معارضة منظمة.

ولطالما عمِل بوتين على ترسيخ حاجة ألمانيا لغاز بلاده الطبيعي، عبر مدّ خط "نورد ستريم 2"، وما عزز ثقته بنفسه، أنَّ الجميع ينادي باستخدام الطاقة النظيفة بعد الاحتباس الحراري، والتلوث العابر للحدود، وشح المياه العذبة، وتلوث الأراضي.

ومع ذلك، هناك أبعد من المشكلات البيئية، التي تجعل من بوتين أكثر اطمئناناً، وقد يكون أهمها الوضع القانوني لتوريد الغاز النرويجي نحو الدول الأوروبية، والذي يُقدر بنسبة 20 بالمئة، وصعوبة وصول كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الجزائري بسبب عدم وجود بنية للنقل السريع، مما أوقف توريدها عند حدود 8.5 بالمئة من إجمالي الاستهلاك الأوربي، وكذلك الأمر بالنسبة لبُعد الأنابيب القطرية من ضفاف المتوسط، وبقاء نسبتها على ما هي عليه 3.5 بالمئة باتجاه القارة العجوز، وبالتالي فإنَّ جميعها أسباب تعزز أوراق القوة البوتينية.

وفي هذا الخِضم، هل بوسع إسرائيل أن تحجز دوراً يُمكِّنها من تعزيز علاقاتها مع روسيا أو حتى مناكفتها؟ بعد أن طلبت أوكرانيا من أمريكا إمدادها بمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي (القبة الحديدية)، وهو ما قد يضع تل أبيب بمواجهة مع موسكو في سوريا، وهذا ليس في مصلحتها بالمنظور القريب، بالنظر لتمركز قوى موالية لإيران بالقرب من الحدود الشمالية لإسرائيل.

ربما يكون من الأفضل لنا أن نتفكر بشخصية بوتين، وأين ستقوده طموحاته التوسعية في جميع الاتجاهات، وإذا ما كانت القوة العسكرية والاختراقات السيبرانية كفيلة بإبراز روسيا البوتينية، أو ثمة من وزع أدواراً وحظي بوتين بدور إرهاب الخصوم، وبالتالي يصبح التنمر والتشبيح نموذجاً عابراً للقارات.
 

ليفانت - درويش خليفة

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!