-
عن سوريا وقضاياها المعلّقة في جدران روايات عبد الرحمن منيف
كنت أجالس نفسي وأفكر في الأحوال التي أوصلتنا إليها الكتل السياسية السورية الموالية والمعارضة. أتمعنُ النظر بذاكرتي التي امتلأت بالمنشورات والتعليقات على السوشيال ميديا، وخطابات الكراهية المتلونة بين السوريين أنفسهم، وأحياناً بين السوريين والشرائح المجتمعية التي تجاورهم في العالم.
فجأةً، خطر ببالي جملة لعزيزٍ فكريٍ احتفظ له بذاكرتي الكثير من الجمل، إنه عبدالرحمن منيف، حيث كتب: "الذاكرة لعنة الإنسان المشتهاة ولعبته الخطرة، إذ بمقدار ما تتيح له سفراً نحو الحرية فإنها تصبح سجنه، وفي هذا السفر الدائم يعيد تشكيل العالم والرغبات والأوهام".
مثّل، إليّ، ولقراء الأدب العربيّ، عبد الرحمن منيف، الذاكرة المناوئة للأنظمة الحاكمة؛ إذ كان في كتاباته يركّزُ على القمع الممنهج للأنظمة العربيّة وكتب عن الحرّيّات والمحرّمات في السياسة، حتّى صار يوصف مرّات بالثائر الروائي.
الذاكرة، تلك اللعنة التي أحمِلها معي أينما ذهبتْ، منذ أن خرجتُ من ظلمات سوريا الأسد، حيث لم أكن أتوقع أن أحمل معي ذاكرة امتهنت العبث بالموجودات والمستحاثات اليومية، ذاكرة كانت كل أحلامها بأن تلتقي على شبك الزيارات مع محبٍ أو زائرٍ مارق على سجن عدرا المركزي في دمشق، حيث تركت لوحتي الأكبر، وبصمات وجهي مع الكثيرين من معتقلي الثورة السورية، وربما "الصدفة السورية الأبرز".
هناك حيث أعود، أتذكر الآلاف من معتقلي هذه البلاد، الذين أخذتهم أفكارهم وقضاياهم، وربما الصدفة لخلف تلك القضبان، حيثُ باتوا أرقاماُ في دفاتر وسجلات المعارضة والنظام، يمارسون حياتهم اليومية بعيدة عن خطاباتنا المتاجرة بهم، وربما هم من يصنعون لنا في تلك البقعة من البلاد، أحلاماً ودساتيراً نصنع بها مستقبلنا.
في تلك الزاوية المهمّشة من قضايانا العفنة، تركنا من يجب أن يكونوا بوصلة القضية التي تحاك من خلالهم الخطوات الأولى نحو التحرر. إلّا أن الصدفة جعلتنا نمتهن الكتابة بعيداً عنهم، ونمارس خطاباً لا شأن له بالذاكرة تلك، ولا حتى بأحلامنا التي كنا ننسجها ونحن نقرأ لعبدالرحمن منيف بعيداً عن جدران السجن.
تلك الأحلام تحوّلت إلى واقعٍ مرير من خلال محاولة القائمين أو المتصدرين على الملف السوري بتعويم المطالب الأساسية للسوريين، وتصدير المطالب الفضفاضة على حساب استمراريتهم، وبقائهم أطول مدة في مواقع التصدّر تلك.
ما أقصده، أنه مازال هناك مئات الآلاف من المعتقلين والمختطفين، والضحايا، لم تُحقق هذه الكتل لذويهم أدنى درجات العدالة خلال هذه السنوات الطويلة من الدعم اللوجستي والسياسي، بل حاولت نفس تلك الكتل تحوير قضاياهم الأساسية، وبالتالي ضياع البوصلة الأساسية عن قضاياهم المحقة.
هذه الحالة من التدهور في الهوية السورية، والعفن المتراكم على الكتل السياسية والعسكرية، ذكرتني بمقولة لمنيف، يدندن فيها، قائلاً: "إن السجن ليس فقط الجدران الأربع، وليس الجلاد أو التعذيب، إنه بالدرجة الأولى خوف الإنسان ورعبه، حتى قبل أن يدخل السجن، وهذا بالضبط ما يريده الجلادون؛ وما يجعل الإنسان سجيناً دائماً".
بالتالي، تقودنا جميع المفارق والمنافذ السياسية والعسكرية الحالية إلى واقعٍ باتَ يستحيل فيه أن تتحقق أحلام عبدالرحمن منيف فيه، وبالتالي تبقى الذاكرة لعنة مشتهاة، نتناقلها من مدينة إلى أخرى، لنحمّلها عدة أوجه بعيداً عن قضايانا تلك، التي باتت أشبه بروايات عبدالرحمن منيف في زاوية من إحدى زوايا مكتبة سجن عدرا المركزي بريف دمشق.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!