الوضع المظلم
الخميس ٢٥ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
عفرين.. دولة الفصائل وقندهارها
شفان إبراهيم

تُشكل عفرين رمزاً لخمس سنوات من هزيمة السوريين، وانتصاراً لسياسات الإجحاف والظلم والقتل على الهويّة. لا أقول ذلك من جهة ندب المآل والبكاء على ما يحصل في تلك المدنية الجميلة والغنية، ولا صدمة أصابتني جراء مصير المدينة ووضع أهلها، إنما فقط للقول إن تأتي نكبات السوريين على يد السوريين، فلا مفاجئة لراهنهم ومستقبلهم.

السوريون هزموا في عفرين، وهي امتداد لسلسلة فشلهم في التوافق على هويّة سورية جامعة، وضرورة التحرك الجدي والسريع، وعوضاً عن ذلك اكتفوا بالمشاهدة والمتابعة، رُبما فالأمر لا يعنيهم كثيراً، وأيضاً رُبما لا يهتمون لحال الكرد السوريين المقتولين على يد الآخر السوري. ومع أن وسائل إعلام سورية معارضة وجهت بوصلتها صوب عفرين دعماً للحق والحريات ووقفاً ضد انتهاكات تلك الفصائل، ورداً لتصرفاتها، خاصة خنق الحريات والتعدي على الإعلاميين، وقتل الأبرياء المدنيين، فقط لأنهم كرد، لكن "دولة الفصائل" لم تكترث ولم يهتز لها جفنٌ.

الواضح أن الطبقات العسكرية والأمنية وشرائح شعبية نزحت إلى عفرين، تتبادلان الحمايات والحصانات، وهو أمر مثير للريبة، خاصة وأنها في العمق تغطية على جريمة قتل المدنيين المحتفلين بعيد النوروز، جاءت تتمة لسلسلة الجرائم والانتهاكات التي مارستها الفصائل المسلحة في عفرين. فالعسكر يصدرون القرارات والمنتمين إلى تلك التنظيمات مع المستفيدين وشريحة الخائفين الملزمين بتنفيذ التوجهات، يٌسوقون لنجاح تلك الفصائل في قضية "تحرير المدينة"، لكنهم يتناسون أن جوهر التحرير هو الإتيان بالجديد والموفر للاستقرار المجتمعي، والمحفز لسلوك عودة النازحين خارج البلاد من المجتمع المحلي، وتالياً فإن تزاوج قوة السلاح مع الخوف المحرك للناس، مع استعداد عناصر تلك الفصائل الإقدام على ارتكاب أيّ جريمة، هي الكارثة التي تنتظر السوريين عرباً وكرداً.

خلال الأيام الماضية شهدت جنديرس في عفرين، نموذجاً صارخاً ووقحاً عن معادلة تغطية الفصائل لجرائمها عبر دعايات وسرديات مملة حول اعتقال الجناة وما شابه. لكنها معادلة بائسة، فبعد "نكتة" اعتقال المجرمين، ونقولها "نكتة" لأن سياسات الفصائل لم تُردع ولم تتوقف من الاعتقالات التي طالت بعض المشاركين في التظاهرات، إلى الضرب المبرح للبعض الآخر، وبذلك كانت الحلول مجهضة في مهدها قبل بدئها. خاصة مع استمرار سياسة إفقار أبناء المجتمع المحلي عبر فرض سيطرتهم على أرزاقهم أو قطعهم للأشجار. أتساءل أحياناً ما مشكلة فصائل المعارضة السورية مع الأشجار التي تُفيد البيئة بالأكسجين، وتوفر فرص عمل، وتؤمن أرزاقاً للكثيرين، وتغذي الأسواق بالمنتجات، وتساهم في تحريك عجلة الاقتصاد، وتمنح المدنية مظهراً لائقاً يُساهم في عظمة المكان والعمران، كل هذه الفوائد لا تحبذها تلك الفصائل التي قامت على الإجرام، لكنها تغض الطرف عن ترويج وبيع المخدرات في عفرين، وتسعد كثيراً لقتل المدنيين الأبرياء على الهويّة، وهي التي قالت إنها من مخرجات ونتاج "الثورة"، أيُّ رموز للثورة هؤلاء، فالثورة التي لا تأتي على الظلم والحيف وتزيل تراكمات التمييز العنصري والكراهية، والتي لا تخلق الأمان والاطمئنان للمجتمع المحلي، هي ليست ثورة إنما الجزء الثاني من الظلم المنظم.

 عفرين، والتي هرب قسم من ناسها وأهلها بسبب الممارسات الترهيبية لتلك الفصائل، تعيش اليوم أسوأ حالاتها من تهديدات الأوبئة الذي يلاحق الوضع الصحي، إلى اصطفاف الناس على حدود الجوع، وهي المدينة الغنية والمعطاءة، إلى التفكير بمن سيموت غداً برصاص حفنة من المجرمين المنتمين لعقود خارج التاريخ، إلى تسبب الانتهاكات والممارسات بتحطيم كل القيم الثورية للسوريين. الغريب ألا تشعر الكتل السياسية السورية بالفضيحة حيال ما يحصل هناك. وعلى مبدأ المثل الدارج "عادي منذ سنوات ونحن نستقبل الفضائح ونهضمها ونتأقلم معها، ثم تصبح شيئاً طبيعياً وجزءاً من حياتنا". وأن تعتقد تلك الكتل أن القضية تخصّ الكرد فقط، والمطلوب منهم إصدار بيان على مضض ثم الانصراف إلى شؤونهم. يا سادة لنتوقف قليلاً، الحدث لا يخصّ لا عفرين ولا الكرد وحدهم، هي قضية هويّة البلاد ومستقبلها، هل سيعيش الكرد، بل كل السوريين، إلى جانب هؤلاء؟ بل هل ستكون تلك الفصائل جزءاً من المنظومة الأمنية والدفاعية لمستقبل البلاد؟ الواضح أن الكل عاجز أمام صدّ تمدد إرهاب تلك الفصائل، ولا مجال لنكران أنه كان بالإمكان تقديم الجناة للمحكمة الفورية، ومشاركة ذوي الشهداء في مصابهم وتأبينهم، وكانت خطوة ممتازة في سبيل التهدئة وخلق أمل أن يلعب الردع الخاص دوراً في الردع العام لتلك الفصائل. لكن مع استمرار سياسة خوف الجميع من تلك الفصائل فإن الشأن العام تحول بكليته إلى عالم من الأكاذيب الركيكة التي لن يصدقها السوريون، لكنهم مرغمين على التعايش معها، قرابة ثلاثة أسابيعٍ على المجزرة، وما يزال المجرمون مكُرمون في سجونهم، ولم يتم عرضهم على المحكمة والقصاص العادل.

عفرين تحولت إلى متاهة يصعب العيش فيها، ولا يبدو هناك أي أفق للخروج من مآسيها، فالشر المطلق يتحصّن في تلك الفصائل، والحل الأمثل هو في عودة المهجرين والمبعدين من ديارهم، لكن تلك الفصائل تمنع ذلك. على هذا النحو أمنت "دولة الفصائل" سلطتها خارج القانون وبعيداً عن أيًّ هيكل سياسي إداري، وحولت عفرين إلى "قندهار" جديد.

ليفانت - شفان إبراهيم

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!