-
العدالة المفقودة.. الأمهات السوريات في مواجهة التجاهل الرسمي لقضية المعتقلين
في عمق الجرح السوري النازف، تبرز قضية المعتقلين والمختفين قسرياً كاختبار حقيقي للعدالة والإنسانية، خلف هذه القضية يقف أكثر من 130 ألف إنسان غُيِّبوا قسراً، تاركين وراءهم أمهات محطّمات، يعشن على أطراف الأمل واليأس، ويتجرعن مرارة الانتظار في صمت لا يسمعه أحد. إن مأساة الأمهات السوريات ليست مجرد حدث عابر في سياق الأزمة، بل هي صرخة مدوية تطالب بحقوق أساسية، ووجع يتغلغل في نسيج المجتمع السوري بأسره.
في مشهد يثير كثيراً من التساؤلات الأخلاقية والسياسية، اجتمع رئيس حكومة تصريف الأعمال، أحمد الشرع، مع والدة الصحفي الأمريكي المختفي أوستن تايس، اللقاء الذي جرى في أجواء يحيطها التركيز الإعلامي والدبلوماسي يعكس حرصاً سياسياً على معالجة قضية اختفاء مواطن أمريكي، وعلى الرغم من أهمية هذا اللقاء من زاوية إنسانية، إلا أنه يُلقي بظلال كثيفة على التجاهل الممنهج الذي يحيط بآلاف الأمهات السوريات، اللواتي ما زلن ينتظرن أدنى بادرة اهتمام بمصير أبنائهن المعتقلين. لماذا تُفتح الأبواب لقضية فردية بينما تُغلق أمام مأساة جماعية تهدد استقرار المجتمع السوري ومستقبله؟
إن قضية المعتقلين ليست مجرد ملف حقوقي عالق في متاهات السياسة، بل هي جرح مفتوح يُعيق أي محاولة للحديث عن المصالحة الوطنية أو بناء سلام دائم. الأمهات السوريات اللواتي ينتظرن بفارغ الصبر معرفة مصير أبنائهن لا يطلبن سوى حقهن الطبيعي في استعادة أحبائهن أو حتى معرفة أماكن وجودهم، إن كانوا أحياء أو أمواتاً. إن هذا التجاهل المستمر لمعاناتهن لا يُعبر فقط عن غياب الإرادة السياسية، بل عن فشل عميق في الالتزام بأبسط مبادئ العدالة والإنصاف.
إذا كانت حكومة تصريف الأعمال، بقيادة الشرع، عاجزة عن التعامل مع هذا الملف الحساس، فإن أقل ما يمكن فعله هو إفساح المجال للمنظمات السورية والدولية المتخصصة في حقوق الإنسان والقادرة على اتخاذ خطوات عملية لمعالجة هذه الكارثة. لقد أثبتت تجارب دولية سابقة أن الإرادة المشتركة بين الحكومات والمجتمع المدني قادرة على تخفيف آثار مثل هذه الأزمات.
يمكن الاستفادة من تجربة الأرجنتين، التي عانت من اختفاء عشرات الآلاف خلال حقبة الحكم العسكري في السبعينيات. بعد سقوط النظام، أُنشئت لجان الحقيقة والمصالحة التي عملت على توثيق الانتهاكات، وكشف مصير المختفين، ومحاكمة المسؤولين، كما لعبت “أمهات ساحة مايو” دوراً محورياً في الضغط على الحكومة لإبقاء قضية المختفين حية، مما أجبر السلطات على التحرك. هذه التجربة تُثبت أن مواجهة الماضي بشجاعة ومعالجته قانونياً وأخلاقياً هي الخطوة الأولى نحو بناء مستقبل مستقر.
إن تأجيل معالجة ملف المعتقلين والمختفين قسرياً في سوريا يهدد بإشعال كراهية وانتقام لن يسلم منه أحد. كل يوم يمر دون حلول يزيد من حجم الألم والغضب لدى العائلات المتضررة. إن غياب العدالة وعدم محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم يرسخ ثقافة الإفلات من العقاب، ويعمق الشرخ المجتمعي الذي يُهدد أي حديث عن الاستقرار أو السلام.
الأمهات السوريات هنّ صوت الضمير الحيّ لهذا الوطن الجريح. دموعهن وآلامهن ليست أقل أهمية من أي قضية دولية تُحاط بالأضواء. العدالة تبدأ بالاستماع لهن، بالكشف عن مصير أبنائهن، وباتخاذ خطوات عملية لرد الاعتبار لهن ولعائلاتهن. إذا كانت حكومة الشرع غير قادرة على هذا، فإن أقل ما يمكن فعله هو فتح المجال أمام منظمات حقوق الإنسان القادرة على قيادة هذا الملف بما يليق بحجمه وأهميته.
سوريا التي نحلم بها لن تُبنى على تجاهل الحقوق أو إنكار المظالم. العدالة ليست ترفاً، بل هي شرط أساسي لإعادة بناء الثقة بين السوريين، ولتحقيق مصالحة حقيقية تضع حداً للدمار النفسي والمجتمعي، الأمهات السوريات يحملن صرخة حق يجب أن تُسمع، ليس فقط لإغلاق ملف المعتقلين، بل لإنهاء صفحة مظلمة في تاريخ هذا الوطن، وفتح أبواب الأمل لسوريا جديدة يسودها السلام والعدالة.
ليفانت : شيار خليل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!