الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
صندوقُ العائلة الأسود
عبير نصر
ولندرك جيداً أنّ "الظلم مؤذن بخراب العمران"، ما علينا سوى أن نمعن النظر بالحال الذي وصلت إليه سوريا، فالسنن الكونية لا تحابي أحداً. وفي الحقيقة من ملك السلطة والمال لا يقبل شريكاً، والأمثلة في التاريخ يصعب إحصاؤها، فالأب يقتل ابنه، أو العكس، والأخ يقتل أخاه إذا نافسه على سلطانه. ولا شك المستبد يقبل بمتدينٍ بلحية.. لا بأس، بثوبٍ قصير.. لا بأس، شرط أن يكون مُشبّعاً بفكرة التمحور حول طاعة وليّ الأمر المطلقة، يهاجم كل من يُخَطّئ المستبد، ويرى أنّ انتقاده في سقطاته نوعٌ من الخروج المحرّم على الحاكم، حتى وإن لم يحمل السلاح.

وفي فترة حكمه يعيش المستبد ذاته في كرب وخوف وارتياب على الدوام، فهو من جهة يخاف شعبه إذا ثارت ثائرته، ويخاف أعوانه وبطانته إذا هم تبينوا عدمَ جدواه في الحكم وقرروا إزالته من منصبه. والمستبد إنسان أناني مركزي الذات انعزالي يعاني من النقص فيعوضه بالاستعلاء على الناس، أقرباء وغرباء على حدّ سواء، ويعتقد بأن سيادته بلا حدود أو قيود، لتحقيق أكبر قدر من المنافع عبر إضعاف وحصار وتركيع واستنزاف الشعب إلى نهاية عمره، ثم توريثه لأبنائه وأحفاده، من خلال خلق مجتمع العبيد الذي تسهل قيادته بمنطق القطيع.

من الواضح أنّ أزمة الاستبداد في سوريا هي في جوهرها أزمة شعب فقدَ قيمه في بلاد تحولت إلى مزرعة شخصية تملكها العائلة الحاكمة. بلاد شهدت عبر تاريخها القريب فصولاً دامية من الانقلابات والانقلابات المضادة، ولعل أبرزها استخدام حافظ الأسد الشبكة التي بناها خلال وجوده في منصب قائد القوى الجوية السورية ووزير للدفاع للاستيلاء على السلطة عام 1970. في وقتٍ تصوّر فيه شريك دربه "صلاح جديد" أنه قادر على أن يُطوّع الأمور كقائد، ونسي أنّ الدبابة هي التي مكّنته من الوصول إلى القيادة.

وحصل ما ليس في الحسبان عندما حرّك الأسد الدبابات وأتمّ ما سُمّي بالحركة التصحيحية، ليحكم البلاد ثلاثين عاماً متبعاً استراتيجية "فرّق تسد"، حيث عمل على شخصنة السلطة لدرجة أنه وحده كان قادراً على إبقاء الدولة متماسكة، ساحقاً أيّ تمرد طارئ. حتى رفعت الأسد الذي لعبت في رأسه أحلام السلطة إثر مرض الرئيس المفاجئ في ثمانينيات القرن الماضي، استطاع الأخير بحنكةٍ ودهاء تطويق التمرد بحفظ مصالح أخيه وأملاكه.

وفي عام 2000 وعندما تبوّأ "الأسد الابن" سدّة الحكم، اضطر في البداية للعمل مع الزمرة التي كانت تحيط بوالده، والتي ترأس العديد من أفرادها مؤسسات الدولة الأساسية مثل الأجهزة الأمنية والجيش، ولكن من أجل تأكيد استقلاليته، دفعهم ببطء إلى الهامش مفضلاً مجموعة مستشاريه المقربين. مذاك تحوّل حكم البلاد من قضيةٍ سورية ذات أبعاد دولية وإقليمية إلى مشكلةٍ عائلية خلّفت الكثير من الأسرار في صندوقها الأسود. إذ كانت خلافة بشّار الأسد لوالده بداية تحوّلٍ على صعيد انتقال الحكم من الطائفة الى حكم العائلة الواحدة، لدرجة أنّ أحد الزعماء العرب وصف سوريا في عهد بشّار الأسد وفي ظلّ والدته أنيسة وخاله محمّد مخلوف بأنّها غدت أشبه بشركة مساهمة عائلية يديرها مجلس إدارة. وما يحدث اليوم هو انفراط الشركة في ظلّ غياب الأم والخال والتخلّص قبل ذلك، في 2012، من آصف شوكت الذي كان دخيلاً على العائلة على الرغم من زواجه من الشقيقة الكبرى لبشّار الأسد. وألمحت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، بُعيد الإعلان عن عملية التفجير التي أودت بحياة شخصيات نافذة في النظام، إلى ضلوع نظام الأسد، في عملية قتل القادة الكبار هؤلاء.

ولم يقف الأمر هنا، فقد طفت على السطح صراعات العائلة ضمن الدائرة الضيقة، ولم يقف الخلاف بين بشّار الأسد وزوجته أسماء من جهة وبين آل مخلوف من جهة أخرى، بل امتد إلى شقيقه ماهر، فثمة أخبار تؤكد وجود توتر كبير بين الرئيس وشقيقه (المعروف بقربه من إيران)، ووفقاً لبعض الأنباء المتداولة، فقد طلبت روسيا من ماهر الأسد إزالة نقاط التفتيش الأمنية للفرقة الرابعة التي يقودها، في أجزاء مختلفة من البلاد، وإعادة الفرقة إلى ثكناتها. وزُعم أن ماهر الأسد الذي وافق على إزالة بعض نقاط التفتيش في بعض المناطق، ومن ضمنها طريق مطار دمشق، قد رفض طلب روسيا إزالة النقاط الموجودة في شرق البلاد وعلى طريق دمشق – بيروت الدولي. وعلى هذا، يمكن تناول محاولات روسيا إضعاف نفوذ قائد الفرقة الرابعة في سياق التنافس بين طهران وموسكو في الساحة السورية. وإن موقف بشار الأسد من أخيه يوازي مطالب روسيا التي كشفت عن نيتها زيادة نفوذ وقوة الفيلق الخامس المنضوي تحت سيطرتها، في مواجهة القوات التابعة لماهر الأسد، مع قيام إيران بمراقبة هذه الموازين العسكرية المتعارضة.

يشير الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" إلى ظاهرةٍ قد تحصل في بعض الحكومات الاستبدادية، وهي أن يقوم وزراء الحاكم المستبد وأعوانه بانتقاده والمناداة بالإصلاح الاجتماعي وتحقيق مطالب الشعب. وعلى أفراد الأمة، في هذه الحال، ألا ينخدعوا وينجرّوا وراء تلك الشعارات الكاذبة الصادرة عن أشخاص انغمسوا في بحر الاستبداد والظلم. فهم لم يهبّوا ضد الحاكم إلا سعياً وراءَ مصالحهم وتهديداً للحاكم ليشاركهم في أموال الرعية وثروات البلاد. وهذا الحال ينطبق تماماً على الشهير بلقب "خمسة بالمائة" سابقاً، فبعد خلعه عن عرش الاقتصاد السوري، قام رامي مخلوف ببثّ سلسلة من الرسائل كان أهمها حلقة "الرد على المرتد"، والتي تتضمن الفضائح المالية والسطو على شركاته من قبل ابن عمته بعد أن ضاقت به الحال إثر صدور (قانون قيصر)، وبلغ به اليأس أنه وعد أن يفشي أسراراً خطيرة أخرى، وأنه وهو (الذي لبس ثوب الورع)، تنبأ أنّ الله عز وجل سيكرر معه معجزة موسى عليه السلام، بفلق البحر والنجاة من "الظالمين" و"الشبيحة". وهدد نظام الأسد بمصير مشابه لمصير فرعون، ووعد أنصاره "الفقراء" ببشرى ستقلب الموازين على بشار الأسد وأزلامه.

في هذا الوقت ظهر نجله في فيديو لـ"يوتيوبر" أمريكي شهير، والذي عادةً يقابل الأثرياء ويسألهم عن مصدر رزقهم، حيث قام بتصويره وهو يقود سيارة فاخرة في إحدى شوارع مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، برفقة عارضة الأزياء والممثلة الإسرائيلية ميشيل عيدان. وسبق لعلي مخلوف أن أثار جدلاً واسعاً، بعد ظهوره في صورةٍ نُشرت عام 2017 وهو يقف إلى جانب بعض السيارات الفارهة في إحدى المدن الخليجية، بينما كان والده يتسوّل تعاطف السوريين. وفي الحقيقة يبدو الأمر طبيعياً لولد عاش من نهب أموال السوريين، وهو ابن أبيه الذي صرّح ذات يوم في مقابلةٍ نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" أن النظام السوري لن يستسلم بسهولة و"سيقاتل حتى النهاية"، مضيفاً أنه "لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا" وشدد على أنّ السلفيين هم البديل عن النظام. وكأن كلماته تردد لحن شعر أمل دنقل حين قال: "لا تحلموا بعالم سعيد.. فخلف كلّ قيصر يموت قيصر جديد.. وخلف كلّ ثائر يموت أحزان بلا جدوى.. ودمعة سدى".

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!