الوضع المظلم
الخميس ١٩ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
صفقة القرن الماضي
مصطفى سعد

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صفقة القرن التي تمثل الرؤية الأميركية والإسرائيلية لحلّ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في 27 كانون الثاني من هذا العام، بعد أن تحدث عنها منذ ثلاث سنوات إلى لحظة إعلانها. لكن كما تعودنا دائماً أن قرارات الرئاسة في أمريكا، على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي تسبق الانتخابات، تكون دائماً مرتبطة بعوامل داخلية بحتة، متعلقة بمراكز القوى وصناعة القرار في الدوائر السياسية الأميركية، الهدف منها أولاً وآخراً المرحلة الانتخابية، وكسب دورة رئاسية جديدة قادمة.




رغم العنجهية التي يمارسها ترامب في علاقاته مع دول العالم -حتى الحلفاء- كالاتحاد الأوروبي مثلاً، الذي فرض عليه عقوبات اقتصادية، ولم يكتف بذلك بل هدد وتوعد بالمزيد منها، إلا أن وضعه الداخلي المأزوم، والمحاكمة التي تعرّض لها بغية عزله من منصبه كرئيس للبلاد ما هي سوى تجلٍ لتلك الأزمة، بغض النظر عن تبرئته وزيادة شعبيته ضمن حزبه لتصل إلى نسبة 94 %، فأراد ترامب من هذا الإعلان أن يقول أنه ليس رجل شعارات، وأن القوة الأمريكية "باقية وتتمدد". ولإرضاء التيار الشعبوي الأمريكي في الحزب الجمهوري، واليمين المتشدد كالبروتستانت وعلى الأخص الإنجيليين (الذي يرفضون العهد الجديد ويتمسكون بالعهد القديم) فهم يرون أن في إقامة دولة إسرائيل تأكيد على صدق نصهم المقدس.




شرع ترامب بقرارات كالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، واعتبار الجولان السوري جزءاً من الأراضي الإسرائيلية، وكل قرار كان أشبه باللقاح أو التجربة لرصد ردود فعل الشارعين الفلسطيني والعربي، وعندها أيقن ما أيقنته جولدا مائير بعيد حرق الأقصى.




الواقع الفلسطيني كارثي، فالقوى السياسية الأكثر فاعلية وحضور كحركتي فتح وحماس تعاني من انقسامات داخلية وخلافات حادة فيما بينها، بالإضافة إلى وجود ضعف اقتصادي في الداخل الفلسطيني واضح، وعجز عن أي تغيير في ظل سلطة الاحتلال والمنظومة السياسية القائمة في ظلها.




أما الواقع العربي فهو أكثر كارثية، ويمكن تقسيمه إلى معسكرين. أولهما المعسكر الخليجي، وعلى الأخص المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فنرى فريقاً يرى العدو الأول إيران والوحيد في المنطقة، وترامب المخلص الجديد مهما كانت تكلفة هذا المخلص. قاد هذا الفريق حرباً عسكرية مع آخرين في اليمن، فشلت الحرب، لكن استمر الحلم بزعامة المنطقة عبر دفع مئات ملايين الدولارات، وكسب ود وصداقة نيتنياهو وترامب علانية وعلى الملأ، باتجاه مباشر وواضح للتطبيع مع إسرائيل، واعتبارها كياناً طبيعياً في المنطقة.




أما بالنسبة إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فلديه أسبابه ليكون مشاركاً في تلك الصفقة، فهو يريد أن يعيد لمصر دورها في الإقليم كما السابق، ويبحث عن أي دعم اقتصادي لبلد يعاني ما يعانيه من سوء معيشي، والأهم من كل هذا أنه يريد لنفسه نيل شرعية لن يستطيع كسبها من الداخل المصري.




وإلى شرق الأراضي المحتلة لم يستطع العراق إطفاء حرائقه بعد الاحتلال الأميركي، ولا سوريا الغارقة في مستنقع لا فكاك منه إلى الآن.




كل ما سبق، لا يعني أن هذا القرار قائم وسينفذ وسيستمر. لا يعني أن الاستقرار سيعم أرجاء المنطقة. قد يكسب كل من ترامب ونتنياهو في معاركهما الداخلية القائمة على الإعلام وكسب تأييد أوساط صناع القرار بأي ثمن، لكن لن يقال يوماً أن صفقة القرن حل تسووي. فالحلول التسووية لا تكون متحيزة، ومن جانب واحد، ولن تكون بإعطاء أصحاب الأرض قطعة من الأرض منزوعة السيادة. والأهم من ذلك الحلول التسووية لا يفرضها القوي على الضعيف، في أشد لحظات ضعفه.




قبول الأنظمة، ورضوخ بعضها، ولهاث قسم منها للقبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، حتى قبل بدء عملية سلام، لا يعني أن الشعب العربي سيقبل بما قبلته أنظمة محكومة من قبل الغرب وإسرائيل، بل سيجهض جميع الاتفاقيات التي لن يحصل بها على حقوقه كاملة.




كانت ردة فعل الشارع العربي جلية ابتداءً من عام 1948، مروراً بمواجهات 1967، و1973، و1982، وعناقيد الغضب 1996وصولاً إلى دخول شارون المسجد الأقصى عام 2000، وحرب تموز 2006، والعدوان على غزة 2008، مقارنةً بما بعد الربيع العربي، إلا أن هذه المقارنة لا تبرز انتفاء أو برود حالة العداء العربية ضد الكيان الصهيوني، بل هي تبرز تردي الواقع الاقتصادي العربي في بعض الدول، وإغراق دول أخرى بحرب مستمرة مع إيران، تجعل إيران في نظر سلطات وحكام هذه الدول الشر المطلق الوحيد. أي أن الظروف الموضوعية المحيطة بالواقع العربي لا تعني تبدد حالة العداء ولا قبول الشارع العربي بهذه الصفقة.




صفقة القرن لم تلد مع إعلان ترامب لها في كانون الثاني عام 2020، ولا مع مبادرة السلام العربية 2002، ولا هي استمرار لاتفاقية أوسلو 1993، أو ابنة كامب دايفيد 1978، بل هي وليدة الحكم ديكتاتوري عسكري في المنطقة، الذي قمع الشعوب، وفرّغ القضية الفلسطينية من محتواها بتحويلها إلى شماعة لاتجاهات ظالمة، ولتعليق فشل هذه الأنظمة المستمر جيلاً بعد آخر، واستخدام لصاقة فلسطين على كل سياستها الفاشلة، والتي تسببت بتردي الواقع العربي إلى ما وصلنا إليه اليوم، وإضعاف الشعوب وإرادتها.




تبدو أميركا وإسرائيل والأنظمة العربية اللاهثة وراء التطبيع كأسماك القرش، بشراهتها للدم والانتصارات السريعة وذاكرتها. لأنها تنسى أو تتناسى أن إرادة الشعب ستغلب مهما طال الزمن، ومهما كان كم الأوراق التي قرروا توقيعها، والابتسام إلى عدسات الكاميرات عقبها. فهذه الشعوب تدرك يوماً بعد آخر تهافت كل هذه الأوراق، وتهافت كل الموقعين عليها، وتدرك أن ما أخذ منها، لن يسترد غير بأيديها.


مصطفى سعد - كاتب سوري



 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!