الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
صراع الدّيكة.. بداية أم نهاية الدوامة الإنسانية؟
باسل كويفي

صراع الديوك على الفراخ (باللهجة المصرية) والجاجات (باللهجة الشامية) عنوان دال على الأمواج العاتية التي تخلفها تحركات الأساطيل بحراً والطائرات جواً والدبابات براً لفرض معادلات وتوازنات جديدة في عالم مضطرب يشهد أزمات متراكمة منذ انهيار جدار برلين والاتحاد السوفياتي، إعلاناً لانتهاء الحرب الباردة في العقد قبل الأخير من القرن الماضي، إيذاناً للبدء بحقبة جديدة تتوزّع فيها المنافع والمصالح باتفاقيات جديدة تتجاوز يالطا وملحقاتها.

مع تقديري للأنثى ودورها وعدم اعتبار هذه المقاربة تمييزاً بل تعبيراً عن واقع جيوسياسي يفرض نفسه، هل قدر الإنسان أن يضلّ الطريق ويعصى عليه بلوغ الغايات؟ هل من نهاية لهذه الدوامة الإنسانية؟

لقد عشتُ حياتي ناظراً إلى ما يبعثُ على الدهشة وعلى لذة الاكتشاف في الشارع الآخر؛ في المكتبة البعيدة عن مدرستي، وفي مَن يختلفون عني نطقاً وثقافة، كان في ذلك ما يبعث عليّ المشاركة والمنافسة بعيداً عن الاشتباك، حريصاً على إثبات أن الإنسان بقدراته يستطيع التغلب على العثرات والنهوض من جديد وإعادة ما تهدّم مع تدبير وجهات ممكنة للتعايش.

إن تراكم الركام فوق الركام مشهد مثير للمشاعر الإنسانية في بلاد النزاع، وفي أيام الشقاء والمأساة التي يعيشها سكان تلك البلدان، ويعيدنا إلى شريط ذكريات الحروب العالمية التي شاهدنا مآسيها بعد الوصول إلى نقاط لم يتمكن العالم آنذاك تجاوز سياسات الضغوطات المختلفة لتندلع شرارة الحرب الأولى ثم الثانية التي لم تطفئها سوى مشاهد الدمار والإنهاك الذي لحق بالدول والمجتمعات، وعلى الأخص في القارة الأوربية، وتوزيع الجوائز للمنتصرين بتسويات على حساب الشعوب الأخرى. وفي طبيعة الحال لم يكن هناك منتصرون، فالجميع كانوا متضررين والنصر الوحيد كان هو تجنب وقوع الحرب الثالثة، تجسيداً للنبوءة الذهبية التي تقول لا للعنف والقتال لأنهما لا يبنيان الدول، بل السلام والاستقرار هو الذي يتيح ذلك عبر بوابات الحرية والديمقراطية والقانون والتنمية المستدامة.

فيما تعيش منطقتنا بعد سنوات الحرب المختلفة، تراكماً في سياسات غزاة (مباشر أو بالوكالة) أقاموا بنيانهم فوق حطام السابق، ولكن من الركام؛ يحضر الموت والحياة، بين أهلها وغاصبيها، فهي ليست لأحد وعصية على الغزاة، هي فقط لجميع أهلها. "فالمجتمعات التي لا يفكّر لها أبناؤها تنقاد لما يفكّر لها الغرباء". من جانب آخر، أدّى انفتاح العالم على بعضه بعد ثورة الاتصالات إلى تأثر "مفهوم الأمن القومي" بالعلاقات الدولية، وتحول في دور الدولة أيضاً، حيث العديد من الأبعاد التي انطوت تحت مظلة مفهوم الأمن التي يجب على الدولة حمايتها وهي: البعد السياسي، والبعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد العسكري، والبعد الثقافي.

العالم اليوم أصبح بحاجة ماسة إلى مناخ سياسي ديمقراطي حقيقي تشاركي داخلي وإقليمي ودولي، على مستوى الحكم والمجتمع معاً، ممّا يسمح بحدوث التحوّل والتغيير الآمن، فالمسألة ليست فقط انتخابات وآليات للممارسة الديمقراطية، بل يجب أن تقترن بثقافة ديمقراطية سليمة داخل المجتمع نفسه، تجنباً لكارثة ما جرى في تجربتي ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، مما يدفعنا لتطوير سياسات ثقافية مبتكرة ودمجها ضمن السياسات العامة لتحقيق تكامل السياسات، والتأكيد على أهمية تمكين تعافي القطاع الثقافي وتعزيز تنوعه وتأكيد دوره كدافع رئيسي للتنمية المستدامة تعزز السلام والاستقرار لخدمة الإنسانية، إضافة إلى تعزيز الاقتصاد الإبداعي من خلال الحوكمة وتطوير البنى التحتية ودعم التعليم والتدريب وبناء القدرات في كافة القطاعات مع مشاركة فعالة للشباب والمرأة عبر التمكين الكامل. "فالوطنية الحقّة هي أن يساهم المواطن لرفع شأن بلده ‏بأي شكل تتيح له ظروفه". والسؤال الذي يطرح نفسه عبر جدلية فلسفية حول الإصلاح في الحكم أولاً أم المجتمع؟

من المحتّم أنّ إصلاح المجتمع أولًا هو السبيل إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم. فالحركات السياسية أو الدينية، حينما تعطي الأولوية لتغيير أنظمة الحكم، فذلك يعني بالنسبة لها بناء أطر حزبية فئوية، ثمّ عملاً سياسيّاً يوميّاً وصراعاتٍ لاحقة على السلطة والمناصب.. بينما إصلاح المجتمع أولاً يعني بناءً سليماً يوجب حسن الأسلوب والتعامل مع الآخر في المجتمع، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري البعيد عن التحزّب والمصالح الخاصة.

هنا أهمّية دور "الآخر" في المجتمع التعدّدي، وهذا "الآخر" قد يكون على أساسٍ مذهبي أو طائفي أو إثني أو حتّى عقائدي وحزبي. لكن المعيار ليس بإقرار حقّ وجود "الآخر" فقط، بل بحقّه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع وفي المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه الكاملة كمواطنٍ متساوٍ مع المواطن الآخر في كلّ الحقوق والواجبات. ومن تلك الرؤية باعتقادي فإن الإصلاح يجب أن يكون على ضفتي المجتمع ونظام الحكم بشكل متوازٍ.

بالعودة إلى صراع الديّكة وامتداد حلبة الصراع باتساع جغرافيتها وتداعيات أمنها وتفسيرات أسبابها، وادّعاءات أطرافها من منظور الأمن القومي والاتفاقات الإقليمية والدولية، تعود وتظهر من جديد على طاولة الضغوط السياسية لتقاسم النفوذ لعبة خلط الأوراق، ابتداءً من حلف الناتو ونواياه التوسعية إلى العبث في السياسة الأمنية والدفاعية للاتحاد الأوربي وأخطاره على الأمن الأوربي والعالمي وصولاً إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي "روسيا، أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان"، والتي ولدت جميعها نتيجة أحداث وتطورات سابقة، وقد يكون من دواعي التغييرات الحاصلة في موازين القوى الدولية حالياً إعادة التكيف في متموضعاتها وأهدافها.

ملف أوكرانيا يطرح على طاولته تناقضات كبيرة

مزيج من التهديد بالحرب المحدودة ومحاولات ابتزاز روسيا وأوربا من بوابة الغاز الروسي سيجعل الصراع مع أوكرانيا شديد التكلفة؛ لانعكاساته الإقليمية والدولية وضبابية أفق الحسم.

بداية لم يقدم بوتين على الدخول في أوكرانيا مكتفياً بإعلان الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، في خطوة تؤكد إصراره على تحدي الغرب ومنع كل من أوكرانيا وجورجيا من الانضمام لحلف الناتو، تاركاً الكرة في ملعب الولايات المتحدة لوقف توسع الناتو شرقاً والتعامل الإيجابي مع متطلبات الأمن الروسي.

الصين من طرف آخر، عملت على تخفيض الصراع في بحر الصين الجنوبي والشرقي، والتوسع في منطقة غرب المحيط الهادي، بما يتيح إنهاء الهيمنة التاريخية الأمريكية في أمريكا اللاتينية وبحر الصين، والهيمنة الأوربية في القارة الأفريقية، وباعتقادي تلك هي خبايا الصراع بين واشنطن وبكين الذي يميل ميزانه لصالح التنين الصيني. وبالتالي لم يكن مستغرباً الإعلان المشترك بين الرئيسين بوتين وشي جينبينغ، إثر لقائهما على هامش افتتاح «الألعاب الأولمبية الشتوية» في الصين، كطرفين في جبهة مشتركة ضد «الضغوط الغربية»، وأنهما يعارضان «مزيداً من توسيع (الناتو)، ويدعوان (حلف شمال الأطلسي) إلى التخلي عن مقاربته الأيديولوجية للحرب الباردة».

في نفس الوقت، يبدو أن تركيا تسلك درب التراجع عن مشروع سياسة خارجية أيديولوجية توسعية عنوانها العملي ملف «الإخوان» الإسلامي، وهي تتراجع لصالح فكرة أقل توسعاً وأكثر انضباطاً. أما إيران من جهتها، فإن مباحثات الملف النووي التي تشير إلى انفراجات قد تغّير من سياساتها من خلال ما ورد في خطاب الرئيس رئيسي، الذي بثّه التلفزيون الإيراني بمناسبة الذكرى الـ43 للثورة الإيرانية، إلى أن بلاده تسعى في سياستها الخارجية إلى «علاقات متوازنة مع العالم»، قائلاً: «نولي أهمية خاصة لدول الجوار».

في غضون ذلك، تكاتف السيناتور الديمقراطي، بوب مننديز، مع زميله الجمهوري، ليندسي غراهام، في مبادرة فريدة من نوعها، لطرح مشروع قرار يدعم «مقاربة دبلوماسية جديدة لاحتواء طموحات إيران النووية وتجنب سباق تسلح يزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط». ويدعم مشروع القرار المطروح تأسيس بنك وقود نووي في المنطقة، ودعم سياسة أمريكية تسمح لأي دولة في الشرق الأوسط بالحصول على الوقود النووي إذا ما توقفت عن تخصيب اليورانيوم.

التعايش السلمي والابتعاد عن التوتر بين دول الخليج العربية وإيران، من صالح المنطقة واستقرارها والمحافظة على أمنها واستمرارية ازدهارها، وأية دعوة لا تتوافق مع هذا الاتجاه، هي دعوة تمليها لحظات الانفعال التي تحول دون الرؤية الصحيحة والواقعية. بناء الثقة وتوسيع رقعة الأمن والاستقرار في المنطقة يتطلب بناء السلام المستدام، ولا شك أن خلاص المنطقة لن يتم دون خلاص دمشق لأنه لا سلام دونها.

وباعتقادي، إن المستخلصات من التدخل الروسي في أوكرانيا يوم 24 - 02 - 2022 قد يؤدي إلى المفاهيم الجديدة الآتية:

- كتابة قواعد النظام العالمي بصيغة جديدة.
-تحالف روسي - صيني يسعى لفرض هذا النظام العالمي.
-أفول النظام العالمي الذي تهيمن عليه دولة واحدة والانتقال إلى التعددية القطبية والفكرية التي توفر ضمانة لنظام أكثر قابلية لتحقيق العدالة والاستقرار.
-انكفاء حلف الناتو لتوسيع رقعته الجغرافية والاكتفاء بالدول التي شاركت في إنشائه مع تحييد الدول المنضمة لاحقاً للدفاع الذاتي عبر معاهدات تضمن أمنهم ويكون دور حلف الناتو تقديم الاستشارات والدعم بمختلف اشكاله دون تواجد قوات للحلف فيها.
-تسوية الملف النووي الإيراني بتنازلات أكبر من أمريكا والدول الغربية، وحصر الدور التركي للتوسط بالتسويات في المنطقة بين دول النزاع.
-تسويات في المنطقة الأوسطية تساهم فيها روسيا والصين بشكل أعمق وقد يحقق السلام المستدام.

إنّ نقد الواقع وكشف سلبياته هو مدخل صحيح لبناء مستقبل أفضل، وفق خارطة علمية منطقية تتيح تحسين واقعه، وإلاّ تكون النتيجة الحتمية عنده هي الشلل بالفكر وبالعمل والاستسلام لواقع الحال تحت أعذار اليأس والإحباط وتعذُّر وجود البدائل، وكذلك تتضخم المشكلة حينما يكون هناك حراك عشوائي دون رؤية فكرية واضحة واقعية تنتهج أسلوباً سليماً عبر الاتّجاه الصحيح.

وختاماً.. نقتبس من كتب التاريخ "النبوغ ظاهرة اجتماعية واقعة، نشهدها من حين إلى حين، والأفراد النابغون مهما تعترضهم العقاب، ومهما يكتنفهم من الظروف، فلهم من قيادة الفكر، والسيطرة عليه، حظ يلائم نصيبهم من النبوغ". (طه حسين "قادة الفكر").

وكما قال أمير الشعراء، أحمد شوقي، إن الحِمْلَ الثقيل ليس ما يحمله المرء على ظهره، بل ما يحمله في صدره: "ليس بحِمْلٍ ما يَمَلُّ الظهرُ … ما الحمل إلا ما يعاني الصدرُ“.

وأضيف ما قاله أبو الطيب المتنبي: "وأعظمُ ما تكلّفني الليالي … سكوت عندما يجب الكلام ُ".
 

ليفانت - باسل كويفي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!