الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
شكل الدولة المناسب للشرق الأوسط
كمال اللبواني

لا يمكن فهم السياسة من دون الدولة، ولا يمكن فهم السياسة إلا كممارسه للسلطة في هذه الدولة، فالأساس هو السلطة والحكم والتحكم، أي النظام العام الذي يحكم الدولة ويعطيها وجودها كمجتمع منظم محكوم بسلطة يعيش على أرض محددة هي ساحة سيادة هذه السلطة، ولذلك يقال بأنّها دولة مسؤولة ذات سيادة.

والسلطة أنواع، منها ما هو طبيعي فيزيولوجي، أو ناجمة عن الترابط الاجتماعي الأسري والقبلي، ومنها ما هو أعلى، أي العرف والعادات والقيم، بما فيها الدين الذي يمارس سلطته من خلال العقيدة والضمير الداخلي، ومن خلال العرف الاجتماعي السائد الذي يضبط الأفراد وينظم سلوكهم بما يحفظ السلم والتعاون والتشارك، لكن كل هذا لا يشكل سلطة سياسية، لأنه عادة ما تتشارك هويات وديانات وعادات مختلفة العيش على أرض معينة، مما يضطرها لحفظ السلم بينها من الاحتكام لسلطة خارجية عن خصوصيتها، تفرض نفسها كسلطة خارجية مصطنعة، هي السلطة السياسية للدولة، تطبق بالقوة ولها مؤسسات قمع وإجبار تفرض السلم الاجتماعي بين المكونات، وحتى بين الأفراد الذين قد لا يخضعون لذات العرف، ولا يحتكمون لعرف واحد.

فالحالة النموذجية التي افترضها هيغل في الدولة، أي الدولة ذات الهوية العضوية والمنظومة القيمية الواحدة التي تقوم على قومية وعرق موحد نظيف الدم وتعيش موحدة تاريخياً على أرض تاريخية، هي حالة مثالية غير موجودة، فالأقوام تتنقل وتنقسم وتختلط، والدول تقوم بفرض السلطة والقوة على أراضٍ تتغير حدودها باستمرار الحروب والاضطرابات، وتخضع أساساً بوجودها لقدرتها على تنظيم القوة القادرة على الدفاع والسيطرة، وهذا يخضع لكن جزئياً للتكوين الداخلي القومي والاجتماعي، مع أنه ليس شرطاً، حيث شهد التاريخ دولاً إمبراطورية واسعة جداً، متغيرة الحدود باستمرار، وشعوباً حرمت من حقها في تشكيل دولها، بل خضعت لسلطات دول أخرى هيمنت عليها بالقوة.

النظرية القومية الأوروبية نظرية مثالية تفترض وحدة قومية عنصرية واستقراراً جغرافياً لا يتوفر عادة، ونتج عنها ابتداع عنصرية قومية مطابقة لحدود الدول التي قامت بالعنف، وأدت لحروب ونزاعات بين الدول، فسّرت على أنّها نزاعات وصراعات قومية، فلو لم تقم الدول على العنصرية القومية، لكان الصراع صراعاً سياسياً بين سلطات، لا يشمل الشعوب ولا يخص الهويات العرقية والدينية والثقافية، ولكي تجتاز أوروبا ذلك مرت بعقدين من الصراعات والحروب انتهت باعتماد مفهوم عقدي سياسي اقتصادي للدولة بغض النظر عن الهويات والتباينات. لم تنعم أوروبا بالاستقرار إلا بعد تطوير نموذج السوق المشتركة ثم الدولة الاتحادية التي نراها اليوم، والتي تحرم العنصرية والتمييز القومي وانتهاك حقوق الإنسان.

في الشرق الأوسط، ملتقى القارات، ذي البنية الديموغرافية المعقدة وسريعة التغير، لا يمكن تطبيق مفهوم الدولة الأمة القومية العرقية التقليدية، لذلك لم تشهد ممالكها ودولها الاستقرار إلا من ضمن الدولة الإمبراطورية التي قامت على سلطة قوية بعيدة، أو على وحدة دينية نتج عنها سلطة قوية واسعة النفوذ، فهو بسبب تنوع مكوناته يحتاج للاستقرار من خلال دولة اتحادية عقدية واسعة جامعة، وغير ذلك ستستمر حالة الصراع والنزاع والحروب فيه، خاصة عندما أصبح حقلاً لتدخل الدول الأخرى التي تملك كلها مصالح حيوية فيه لموقعه الجغرافي وأهميته الجيوسياسية.

وعليه ستكون الدولة الموسعة المتعددة القوميات التي ستقوم في الشرق الأوسط نموذجاً حياً تجريبياً لدولة ونظام العالم الجديد الذاهب للاتحاد بفعل العولمة، لكن عن طريق الصراعات التي لن تنتهي من دون صيغة جامعة.

 

ليفانت – كمال اللبواني

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!