-
سكن عشوائي، أم مستوطنات؟!.
قررت إدارة التلفزيون السوري بصورة مفاجئة إجراء اختبار لكافة المعدين والمحررين العاملين في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لا فرق بين الذين أمضوا سنوات طويلة في العمل، أو حديثي العهد.
يتطلب الاختبار أن يقوم كل معنيّ بالأمر بإنجاز تقرير تلفزيوني يختار موضوعه الذي يراه، على شكل فلم قصير مدته القصوى خمس دقائق.
اخترت بدوري موضوع السكن العشوائي في دمشق، هذا الموضوع الذي طالما أثار مخيلتي منذ عدة عقود بدأت عندما شاهدت أول مرة بيوت التنك والصفيح التي تشبه البيوت التي يصنعها مربوا الحمام فوق أسطحة بيوتهم، تلك البيوت المتلاصقة والعشوائية إلى درجة الفوضى الفاقعة للبصر، عرفت باسم: الزفتية، والتي أقيم على أرضها فيما بعد كراج انطلاق باصات لمحافظة درعا وآخر لمحافظة السويداء، وهي الواقعة في مساكن الزاهرة بالقرب من ساحة باب مصلى.
لم أعرف من الذي أطلق عليها تسمية الزفتية، ولا من أين اشتق الاسم، وما إذا كان يريد بذلك الإشارة إلى أن حياة البشر الذين يسكنون هذه الأكواخ فيها تشبه الزفت (الإسفلت بالسوري) ؟!.
أذكر من تلك الأيام صوراً ضبابية عن الحي وساكنيه من فقراء الناس والمعدمين، وسلسلة من الحكايات عن العالم السري الذي يختبئ خلف أكوام التنك والصفيح، وعن العالم السفلي الآخر الذي لا يشبه ذاك الذي يبعد عن حدوده بضعة أمتار ليس أكثر.
حكايات الخارجين عن القانون، من لصوص، وقوادين، وعاهرات، وطالبين للمتعة بأبخس الأثمان من العساكر الذين اجتذبتهم العاصمة دون أن تكترث بوجودهم، أو تراها لم تكن مرحبة بهذا الوجود أساساً.
على الرغم من رؤيتي للزفتية مئات، وربما آلاف المرات، وعلى الرغم من معرفتي ببعض الأصدقاء الذين كانوا يترددون على الولوج إلى داخل تلك الأعشاش، التي تسمى مجازاً بيوت، إلا أنني لم أقترب خطوة واحدة نحو الداخل، وهو ما أندم عليه كثيراً الآن، وألوم نفسي عليه باعتباره تقصيراً سببه التهيّب، أو الخوف من الاقتراب إلى قلب عش الدبابير، كان ذلك سيوفر لي فرصة التعرف أكثر على حقيقة أولئك الناس، وحقيقة عالمهم الذي تختلط أحداثه بالمرويات التي تكاد تتقاطع مع الأساطير، أو على الأقل تلك التي ينسجها الخيال البشري، وليس الواقع بحد ذاته.
عندما اخترت السكن العشوائي موضوعاً للتقرير التلفزيوني الذي أزمع تنفيذه، قلت في سري: ها هي الفرصة تعود لي مرة أخرى للتعويض عن ترددي السابق وتضييع فرصة التعرف عن كثب على ذلك العالم الذي تغلفه الأسرار، وأنني سأدخل حياً شبيهاً على أقل تقدير.
تزاحمت الأسئلة في رأسي من قبيل: هل يمكن لي أن أرى الزفتية المندثرة مرة أخرى، ولو بمكان آخر، وتسمية مغايرة، وظروف مختلفة؟!. أم تراني سأدخل بيوتاً عشوائية لناس فقراء فقط؟!. وما المشترك بين هؤلاء وأولئك من الناس؟!. وهل ثمة ظروف وعوامل جديدة أدت إلى قيام هذا الحي الذي اخترته؟!.
ما اسم الحي الذي قررت التوجه إليه، وما موقعه في دمشق؟!. وهل هو حي شعبي أساساً أم مستوطنة؟!. ولماذا؟!.
ليس لهذه المستوطنة من اسم، ولن يجد الباحث عنها موقعاً لها على الخريطة التي ترسم حدود العاصمة، وليس لها بلدية، ولا أي نوع من الخدمات، ومع كل هذا وعلى الرغم منه فهي تضم مئات العائلات.
لماذا أُطلق عليها تسمية المستوطنة؟!. لأن السكان فيها جميعاً من منبت واحد، وعمل واحد، ووصلوا في ظروف واحدة طارئة فرضتها عليهم ظروف العمل الجديد، ألا وهو العمل في الجيش والمخابرات، وهذه العائلات سمح لها بأن تضع يدها كيفما اتفق على أراضٍ قريبةٍ من مراكز الجيش والأمن، والمثال الأكثر سطوعاً لدى السوريين هو الحي المعروف باسم 86، الذي بدأ ببضعة بيوت لعسكريين من سرايا الدفاع سكنوا بالقرب من الكتيبة التي تحمل الرقم 86، وتمددت البيوت حتى صارت مستوطنة كاملة، تم تخديمها بالماء والكهرباء بشكل غير نظامي، الماء والكهرباء سرقة، ومع الزمن ارتفعت فيها الأبنية الطابقية، وصارت حياً كامل الخدمات، ومركزاً لعناصر الجيش والمخابرات والشبيحة فيما بعد.
أما المستوطنة التي أتحدث عنها والتي لم تمنح أي اسم، فهي تقع ملاصقة لما يعرف بمساكن الضباط من الجهة الخلفية، في نهاية أوتوستراد المزة، وبالقرب من مستوطنة أخرى اسمها (مساكن السومرية) وهي من إنجازات قائد سرايا الدفاع المجرم "رفعت الأسد"، بناها في مواجهة مطار المزة العسكري لضباطه وعناصره حين كان في أوج قوته وجبروته.
يحدها من الجهة الأخرى الجبل، فهي غير مرئية لمن يسلكون طريق المزة باتجاه قطنا والقنيطرة، كأنها محكومة منذ البداية أن تبقى في الظل بعيداً عن العيون والأسئلة.
أثناء دخولي برفقة الكاميرا والمصور، ومساعد المصور وتجولي بين البيوت، ومحاولتي أجراء مقابلات مع بعض الذين يسكنون، لفت نظري أنني لم أعثر على أي رجل بالمطلق في المكان، فقط رأيت نساءً يمارسن ما يمكن تسميته (الحياة اليومية) في هذه التي يطلق عليها تجاوزاً بيوتاً صالحة للسكن الآدمي.
تعود صورة الزفتية حاضرة بقوة هنا عندما أمشي بين الطرقات التي تمتلئ بالسواقي من مخلفات الصرف الصحي في البيوت، حيث لا وجود هنا لخدمات عامة ولا بأية صورة، كل ما تراه العين محض عشواء.
بيوت مصنوعة من الخشب المسروق من بقايا صناديق العتاد العسكري، أو مخلفات البناء في مشاريع البناء القريبة من تلك المنطقة.
الماء معباً ببراميل أو خزانات صغيرة، تأتي صهاريج الجيش لتعبئتها، والكهرباء مسروقة من أماكن بعيدة، حيث تشاهد الكابلات معلقة على أعمدة خشبية مغروسة في الأرض، أو متدلية تلامس المياه القذرة التي تملأ الطرقات.
داخل البيوت لا سقف أكثر من ألواح الخشب، أو الألواح الاسمنتية في أحسن الأحوال، أما الأرض ففي الأغلب مرصوفة بقطع من بلاط الأرصفة المسروقة.
بعض الصور مشتركة مع واقع المستوطنات الأخرى مثل (عش الورور).
أجريت بعض اللقاءات، وتعرفت على جوانب كثيرة من حياة هؤلاء البشر، وبطبيعة الحال ليس كل ما يصوّر ينشر في التقرير أو الفيلم.
بعيداً عن التقرير التلفزيوني المشار إليه، فإن ما يهمني الحديث عنه هو ذلك البؤس اللا محدود الذي عاشه أولئك البشر المسحوقين، الذين تقدموا الصفوف ليكونوا رأس الحربة في يد نظام الإجرام وأداة القمع الأولى ضد المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع يهتفون للحرية والعدالة والديموقراطية، فقتلوا وسلبوا ونهبوا دون أي إحساس بقيمة بشرية، فقط كان همهم رضا أسيادهم.
لذلك كان فإن السؤال يكتسب مشروعيته التالية:
هل كانت تلك التجمعات مجرد سكن عشوائي لبشر أرغمتهم المصادفات وظروف الحياة على العيش بمثل تلك الأحوال اللا إنسانية، أم هي سياسة مرسومة قامت باستيطان بشر واستغلالهم تحت ضغط الحاجة للقمة العيش، لتجعل منهم عند الحاجة رصيداً احتياطياً لمهام قذرة يفكر بها ويخطط لها النظام الأسدي المجرم منذ أن أحكم زمام قبضته الأمنية على رقاب السوريين؟!.
عن هؤلاء الذين يعيشون في الكهوف كما الوحوش، بما يفرض عليهم من ظروف وأنماط حياة، كي يخرجوا عند الحاجة وهم أشد شراسة وفتكاً، وكأنهم في قتل الآخر يعثرون على خلاصهم الفردي، هكذا هي سيرة بعض الذين كانوا بشراً قبل الأسد.
سكن عشوائي، أم مستوطنات؟!.
سكن عشوائي، أم مستوطنات؟!.
سكن عشوائي، أم مستوطنات؟!.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!