الوضع المظلم
الخميس ٠٧ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
رجب الأول أردوغان وعولمة النيوعثمانية
عبد الله السالم


(عندما تدخل “السين” على “الشين” سيُعرف مكان قبر محي الدين).. بتلك النبوءة الغامضة نفّذ (سين) السلطان سليم الأول عسكرياً، ما خطط له الإسلام السياسي، آنذاك، والمعروف بالجهاردية، غزوه لبلاد الشام (شين) وصولاً لدمشق، التي قابل من بها من العلماء، فأحسن وفادتهم، وفرّق الإنعامات على المساجد وأمر بترميم المسجد الأموي. رجب الأول أردوغان


بلغ الترحيب به أن أضاف خطيب الأموي في دعائه له عبارة “حاكم الحرمين الشريفين”، لكن سليماً فضّل استخدام لقب أكثر ورعاً هو “خادم الحرمين”، ليغدو أول أمير للمؤمنين غير عربي.


إضافة لذلك، أمر السلطان بترميم وإعادة بناء جامع الشيخ محي الدين بن عربي، في عام 1518، بعد أن رأى الشيخ محي الدين في منامه حيث طلب منه الشيخ بأن يبني له مقاماً فوق ضريحه، مؤسِّساً لعلاقة عثمانية مع الصوفية الإسلامية عموماً، والشامية خصوصاً، تستمر إلى أنّ ينهيها (تركياً) تتريك الاتحاد والترقي وعلمانية أتاتورك، ويبدأ رجب الأول أردوغان إحياءها (عثمانياً).


النيوعثمانية


(تركيا لنا جميعاً.. إنّها منذ عام 1299 إلى عام 1923 كانت دائماً تتولد منا نحن بإصرار -على مستوى الطرح الفكري- أنّه يمكن الجمع بين كل ما يُظَنُّ أنّه متناقض.. أنا حزبي محافظ، ديمقراطي محافظ، أسعى للحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا وثقافة الأمة التركية، وأسعى لتطبيق ديمقراطية قوية ومتطورة ولا تقلّ عن الديمقراطيات في العالم). رجب الأول أردوغان


بهذه العبارات وضع أردوغان خارطة طريق للنيوعثمانية، وشهدت السنوات الأولى لرئاسته تقدماً في المفاوضات الخاصة بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وانتعاشاً اقتصادياً بعد الأزمة المالية في عام 2001، واستثمارات في البنية التحتية. كما نجح في تمرير استفتاءين دستوريين ناجحين في عامي 2007 و2010 وتصالح مع الأرمن واليونان، وفتح جسوراً بينه وبين أذربيجان، وبقية الجمهوريات السوفياتية السابقة، أعاد لمدن وقرى الأكراد أسماءها الكردية بعدما كان ذلك محظوراً، وسمح رسمياً بالخطبة باللغة الكردية.


عربياً



فصم الغزو الأمريكي للعراق عروة سنيّة القومية العربية عن البعث العراقي، ومهّد طريق أردوغان لإحياء مشروعه كوسط بين الصوفية والجهادية السنيّة. فعبر منع أردوغان الأمريكيين من استعمال القواعد العسكرية في تركيا لاجتياح العراق 2003، وضع رجب الأول حجر الأساس لنيوعثمانيته، وكان هذا مكسباً مضافاً في تمتين ولاء القاعدة السنيّة للزعامة الأردوغانية التركية، على حساب قومية عربية متنازع على زعامتها، بين ناصرية تحتاج إلى حامل يرشدها بعد فقدانها لعبد الناصر وخروج مصر بكامب ديفيد، وبين بعثين، أحدهما عراقي حامله الإسلام (السنّي)، والآخر سوري حامله (الرسالة الخالدة للإسلام).


ومع عدم قدرة أي طرف على تحديد ماهية وشروط القومية التي يريد، سَقَطَ الإجماع حول أي أمر عروبي، بل ساد منطق اللااتفاق التخويني بين (الظاهرة) الناصرية المحمولة على كاريزما عبد الناصر دون نهج قومي فعلي، وبين (نهج) البعث الذي لم يشكل ظاهرة عربياً. رجب الأول أردوغان


وإذا كان غزو العراق قد أطلق النيوعثمانية، فإنّ إعدام الرئيس “صدام حسين” السنّي المقاوم للاستكبار والصهيونية (رمزياً)، وفي عيد الأضحى أطلق العنان للمظلومية السنيّة. كما أدى اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية، رفيق الحريري، إلى إجهاض نهائي للمشروع العروبي السنّي، وتحوّل (العرب السنّة) إلى مستضعفين، ليكون الفاتح رجب الأول حاملاً لفلول الناصريين وبعثيي العراق ومستضعفي العرب السنّة باعتبار منجزاته أعلاه.


ورغم أنّ الخلافة النيوعثمانية اصطدمت مع البعثية السورية التي خبرت جيداً الإسلام السياسي، إلا أنّ (العثمانية بنسختيها) حافظت تاريخياً على تعاطف مكبوت من البرجوازية المدنية والصوفية، إضافة للدعم المصلحي للجهادية السلفية المدعومة قطرياً.


سكتت دول الاعتدال العربي على النيوعثمانية، كون أركان خدمة الحرمين الشريفين ستبقى عربية ولاخوف عليها، وطالما أنّ النيوعثمانية لا تهددهم، وتتلقّى الصدمات عنهم وتقف معهم في مواجهة تصدير الثورة الخمينية والهلال الشيعي بعد صدام حسين. وصلت إلى أنّ منحته السعودية جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لعام 2010، وكذلك تم منحه شهادة دكتوراه فخرية من جامعة أم القرى بمكة المكرمة.


تركياً


استفاد رجب الأول من حقيقة تعامى عنها العرب، بأنّ السنّة هم أمة والأمم تحتاج زعماء، ونقلها للأمة التركية التي تقدّر بحوالي 175 مليون إنسان، يمثّلون الشعوب التركية الأوروآسيوية والتي تقيم في شمال ووسط وغرب أورآسيا، وتتكلم لغات تنتمي إلى عائلة اللغات التركية، وتتشارك فيما بينها بنسب متفاوتة في سمات ثقافية وتاريخية محددة. (يستخدم مصطلح “ترك Turkic” للتعبير بشكل واسع عن مجموعة الإثنيات اللغوية لهذه الشعوب، مثل: الآذاريين والكازاخ والتتار والقيرغيز والأوزبك والتشوفاش وأتراك الجمهورية التركية والتركمان والإيغور).


ولقيادة هذه الأمة، فإنّه يحتاج إلى رمزية دينية بدأها من أولى القبلتين، لتحويل القضية الفلسطينية من قضية عربية إلى قضية إسلامية، حيث حذّرت مراكز دراسات إسرائيلية من التغلغل التركي في القدس، متخذاً شكل جمعيات خيرية على رأسها منظمة IHH ومنظمة تيكا، وأفاد مسؤولون أمنيون إسرائيليون أنّ الدولة العبرية على دراية تامة بالموضوع وتعيره المزيد من الاهتمام، في الآونة الأخيرة. وكشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية بأنّ السلطة الفلسطينية -التي أيّدته لاحقاً في قضية آيا صوفيا- والأردن والمملكة العربية السعودية، حذروا “إسرائيل” مراراً من تنامي حجم النفوذ التركي في القدس المحتلة.


العروبة التي فشلت بمنع تهويد القدس، لم تمانع بأخونتها على يد الأتراك، حيث لم تنجح العروبة ومفاعيلها التاريخية بإعطاء العرب الأمان الذي فقدوه منذ أيام الخلافة العثمانية. وفي ظل القطيعة الفكرية والعقائدية والقومية بين العروبة والعرب، وإذا تحولت القدس إخوانياً فسوف تفقد ميزتها العروبية، وهو بالضبط ما عمل عليه بنجاح رجب الأول. رجب الأول أردوغان


على إثر إزاحة الإخوان في مصر، بدعم سعودي، توترت العلاقات بين دول الخليج وتركيا، مما جعل إسطنبول عاصمة المعارضين العرب، وبالمقابل شمّرت الإمارات عن ذراعي محمد دحلان للمواجهة التي تجلّت بالاشتراك في محاولة الانقلاب الفاشلة 2016.


أما سعودياً، فكانت طاقة الفرج مع انتخاب الرئيس ترامب وسياسته ضد إيران، والموالية للسعودية التي دفعت ما عليها، وبعد أن نأت قطر بنفسها عن السعودية، نجحت السعودية بضم تركيا والإخوان إلى “مثلث شر” واحد مع إيران، حسب ما أشار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.


نتج عن ربط إيران بتركيا والإخوان، أن توسعت رقعة الصراع، حيث اختصّت الإمارات بسوريا وليبيا، ونالت السعودية العراق ومصر. وقد اتهمت الإمارات العربية المتحدة تركيا بـ”السلوك الاستعماري والتنافسي”، عن طريق “محاولة الحدّ من سيادة الدولة السورية” من خلال وجودها العسكري في سوريا. واستمر تدهور العلاقات، بعد أن شارك وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، عبد الله بن زايد آل نهيان، تغريدة تدّعي أنّ تركيا سلبت المدينة المنورة خلال الحكم العثماني. ورد أردوغان من خلال وصف نهيان بـ”الرجل السفيه” الذي كان “مدللاً بالنفط”. بعد ذلك، ذكر أنور قرقاش، الدبلوماسي الإماراتي، أنّ “النظرة الطائفيّة والحزبية ليست بديلاً مقبولاً، وأن العالم العربي لن تقوده طهران أو أنقرة” وعليه تم توزيع الصراع لمحورين، تركيا اختصاص إماراتي، وإيران حصّة السعودية، هذا الأمر رسّخ مفهوم إسلامية الصراع الإسلامي- الإسرائيلي على حساب العربي_الإسرائيلي، عبر محورية القضية الفلسطينية ورمزية القدس.


والأكثر من ذلك، فقد حجّم أردوغان منظمة التعاون الإسلامية عبر عقد مؤتمرات سنوية، بمشاركة إيران وباكستان وماليزيا وقطر وإندونيسيا، تعالج قضايا الإسلاموفوبيا والإسلام والمعاصرة، وقد احتلّ رجب طيب أردوغان المرتبة الأولى في قائمة الـ”500 شخصية مسلمة الأكثر تأثيراً، بنهاية عام 2019.


قضية آيا صوفيا، هي رسالة لتثبيت فكرته حول الأمة التركية القادرة، وهي موجهة برمزيتها لشعوب الأمة التركية، في كافة بقاع العالم، وللمستضعفين العرب لإفهامهم أنّه لا مستضعفين سنّة بعهد رجب الأول، وبذلك يكون قد ضمن الدنيا والآخرة، فإذا فقد السيادة بقي الزعيم الروحي.


خاتمة


من ليبيا إلى المشرق، بات من الواضح أنّ الرئيس التركي قد نجح في استقطاب أطياف واسعة من المستضعفين، ويُعزى نصف النجاح له، والنصف الآخر يُمنح بجدارة للقوميين العرب بمحاباتهم للترك، في سبيل قضاياهم المختلف عليها بين بعضهم البعض، وبدلاً من تحديث قوميتهم أضحوا أداة في المشروع النيوعثماني، أسوة بحلفائهم الإخوان المسلمين، لتضيق حدود قوميتهم في عدم انفتاحها على الأقليات الدينية والإثنية التي تعيش في كنف الوطن العربي واعتبارهم من الأغيار، وتغيب فكرة التنوع والانفتاح على مختلف الأطياف عبر مصطلحات عصرية تمكّنها من إعادة التوازن ولمّ شمل الدول العربية.


ليفانت – عبد الله السالم








 




كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!