الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
تركیا والتھدید بین حین وآخر بورقة المیاه
ماهين شيخاني

المیاه مورد طبیعي حیوي موزّع بشكل غیر متساوٍ، فإنّ توفره یؤثر غالباً على الظروف المعیشیة والاقتصادیة للدولة أو المنطقة. وكما ھو معلوم فإنّ الماء عصب الحیاة، ولا غنى عنه للحفاظ على الحیاة والصحة والبیئة، وھو أساسي للحفاظ على كرامة الجمیع.


فالمادة 55، الفقرة الأولى من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقیات جنیف الرابعة 1977 تنصّ على أنّه: في أثناء القتال یجب مراعاة حمایة البیئة الطبیعیة من الأضرار البالغة الواسعة الانتشار والطویلة الأمد، كما وتتضمن ھذه الحمایة حظر استخدام أسالیب أو وسائل القتال التي یُقصد بھا أو یُتوقع منھا أن تسبب مثل ھذه الأضرار في البیئــة الطبیعیــة، ومن ثم تضرّ بصحـة السكان أو بقائھم. كما تحظر المــادة 55، في فقرتھا الثانیة الھجمات على المناطق الآھلة بالسكان.


فمنذ سیطرة الجیش التركي، وفصائل سوریة مسلحة موالیة له، بدایة أكتوبر/ تشرین الأول، العام الماضي، على مدینة رأس العین، بعد ھجوم واسع وعملیة “نبع السلام”، تحوّلت محطة العلوك إلى ورقة ضغط بین موسكو وأنقرة، وقد دخلت على خط المفاوضات، وتوصلوا إلى تفاھمات أولیة نصّت على السماح بضخ المیاه من العلوك نحو مدینة الحسكة، والبلدات التابعة لھا وریفھا، مقابل تزوید محطة مبروكة الكھربائیة برأس العین بالتیار الكھربائي لتخدیم المناطق الخاضعة للفصائل الموالیة لتركیا.


وقد أعلنت مدیریة المیاه في مدینة الحسكة فیما مضى، التابعة للإدارة الذاتیة لشمال وشرق سوریا، أنّ الجیش التركي والفصائل السوریة الموالیة له، أوقفت الضخ من محطة میاه علوك، بریف رأس العین الشرقي، ویعدّ ھذا القطع الثامن من نوعه منذ أكتوبر/ تشرین الأول 2019.


وذكرت أنّ السلطات المحلیة في رأس العین عمدت إلى إیقاف عمل المحطة، لیل السبت_الأحد، وأشارت إلى أنّ عمال المحطة لم یتمكنوا من الوصول للمحطة، والكشف عن أعطالھا وإصلاحھا، في وقت دعت اللجنة الدولیة للصلیب الأحمر جمیع الأطراف إلى الالتزام بتطبیق القانون الدولي، وتحیید ملف میاه الشرب، وحمایة المصادر الرئیسة لتدفق المیاه لكل السكان بشكل عادل.


وتعدّ محطة العلوك المصدر الوحید لتأمین میاه الشرب لأكثر من 460 ألف نسمة یعیشون بالمنطقة، وتزود بلدة أبو راسین وناحیة تل تمر ومدینة الحسكة وریفھا، وھذه المناطق تعاني أصلاً في وضع ھشّ بإمدادات المیاه، كما تغذي المحطة 3 مخیمات، من بینھا مخیم “واشوكاني” ویضم قرابة 12 ألف نازح، فرّوا من رأس العین، ومخیم “العریشة” الخاص بنازحي مدینة دیر الزور، ویبلغ تعداده نحو 13 ألفاً، أما مخیم “الھول” فیبلغ عدده نحو 68 ألفاً، حیث یعیش فیه آلاف النازحین السوریین، واللاجئین العراقیین، وقسم خاص بالأجانب الذین كانوا یعیشون في مناطق سیطرة تنظیم داعش سابقاً.


ولابدّ ھنا من أن ننوّه بأنّ المحطة كانت تضخ لمناطق سیطرة الإدارة الذاتیة ثلث الكمیات المتفق علیھا، بحسب تفاھمات أنقرة وموسكو، فمنذ 8 أشھر، یتم تشغیل 3 محطات ضخ من أصل 8 محطات، بھدف إبقاء كل المناطق تعاني من شحّ میاه الشرب وقلّتھا، وما یزید من المعاناة والتحدیات انتشار جائحة كورونا بالمنطقة.


كما وتشكو منظمات إنسانیّة دولیة ومحلیة تعمل في المنطقة، من أنّ بدائل ضخ المیاه من محطة میاه العلوك غیر كافیة، حیث تقوم بتوزیع المیاه عبر صھاریج بشكل متقطع، وتستغرق وقتاً طویلاً، بحسب تقریر صدر عن منظمات محلیة تعمل على تأمین المیاه والصرف الصحي، في شمال شرقي البلاد، وذكرت في تقریرھا أنّھا توفر أقل من 50 في المائة من احتیاجات السكان، فضلاً عن كلفته الباھظة، عدا جودة وصلاحیة المیاه القابلة للشرب أو للاستخدامات المنزلیة.


وتستمرّ تركیا في استغلال ما یفوق حاجتھا المنطقیة بكثیر، على الرغم من توقیعھا على المواثیق الدولیّةِ التي اتفقتْ علیھا دول العالم، والتي تعتبر نظریة “الحق الطبیعي” مبدأً تشریعیاً دولیاً نصّت علیه معظم الاتفاقات الدولیة، والتي نصّت على أنّ مجرى النھر ملك مشترك لا یجوز لدولةٍ ما حصرھا لنفسھا ومنع الشعوب المقیمة علیھا في الاستفادة منه


وقد بدأت تركیا التخطیط لسد “إلیسو” منذ عام 1930، وفي أواخر عام 2006، أي بعد 76 عاماً، وضعت الحكومة التركیة الحجر الأساس الذي لا یبعد سوى 50 كم عند الحدود العراقیة، فیما عن الحدود السوریة بنحو 45 كم، وأنّ تكلفة المشروع ملیار و200 ملیون دولار، وبطاقة تخزینیة من المیاه تقدّر ب11-40 ملیار متر مكعب، فیما تبلغ مساحة بحیرة السدّ 300 كم مربع، وطاقة المحطات الھیدروكھربائیة الملحقة بالسد 1200 میغا واط، وبطاقة سنویة 3830 كیلو واط.


وفي بعض الدراسات، التي أكدت أنّ الاتفاقات التي عقدت بھذا الخصوص لم تكن منصفة وأعطتْ الحق لتركیا لاستغلال میاه الغیر بشكلٍ مفرط أكثر من حاجتھا، مما یعني خسارة العراق وسوریا ملیارات الأمتار المكعبة من المیاه، خاصة وأنّ تركیا تمتلك 91 سداً على نھري دجلة والفرات، والغریب في حالة إكمال السد، فإنّ أحد المتضررین أیضاً ھو الشعب التركي ذاته، لأنّ التقاریر الصحفیة أكدت أنّه سیعرّض أكثر من 200 موقع أثري وتراثي، ومدن تركیة أخرى یسكنھا الكورد ولھا قیمة تراثیة عظیمة، للغرق والتدمیر، وعلى رأسھا مدینة “حسن كیف” التراثیة، والتي یعود زمنُھا إلى أكثر من عشرة آلاف سنة.


وتتجاھل السلطات التركیة عند إقامة السد، ولم تقوم بالتشاور مع الدول المشتركة معھا في حوض نھري دجلة والفرات، مثل العراق وسوریا، بالرغم من وجود مجموعة من الضوابط القانونیة والمواثیق والاتفاقیات الدولیة التي تحكم عملیات إنشاء وتدشین السدود المائیة، والتي من بینھا ضرورة التنسیق والتعاون بین دول

المصب ودول المنبع عند إقامة السدود.


وھذا التصرّف اللاإنساني الإجرامي والبعید كل البعد عن القوانین والتشریعات الدولیة، بخصوص حمایة وحقوق الإنسان، یذكرنا بواقعة قلعة “دمدم” أو بالأمیر صاحب الكف الذھبیة، حینما قطعوا المیاه لتلك القلعة وأھلھا، وللأسف وفق ما یجري على الأرض من نزاعات وتداخل في السنوات الأخیرة على المستوى الإقلیمي، یبدو لا حلول في الأفق، فإنّ ملف المیاه لیس بأحسن حالٍ من ملف السیاسة والحروب القائمة، وعدم الاستقرار واستمرار النزاع في سوریا، أو التدخل الإیراني المباشر في العراق، خیر شاھد بأنّ ملف المیاه مع تركیا شائك وغیر قابل للحل، وبالتالي لن تقدم حلولاً في المدى المنظور لمصلحة البلدین الجارین، وعلى الرغم من أنّ نھري دجلة والفرات دولیان، وینطبق الأمر كذلك على العدید من الروافد التي تقع منابعھا في دول الجوار، وأنّ القانون الدولي یشكل إطاراً صالحاً لحل الخلافات بشأنھا، لكن ما ھو مخفي مختلف تماماً، عن ما ھو ظاھر، وستبقى تركیا تھدّد في حرب المیاه كما سیاستھا في حرب الحدود.


وربما یتساءل كثیرون عن أسباب تعثّر المفاوضات السوریة_التركیة في العقود السابقة، لكن في الواقع یعود إلى عاملین: سیاسي ومائي. الخلافات السیاسیة بین تركیا وسوریا عمیقة الجذور وتتمحور الخلافات على ثلاثة موضوعات، ھي: المیاه والكورد ولواء إسكندرون، بإقرار سوریا یتضمن تنازلھا عن لواء إسكندرون، وبعقد اتفاقیة شاملة للمیاه وتعاون سوري_تركي لضرب العناصر الكوردیة ذات الأھداف القومیة في المجتمع الكوردي، في شرق تركیا، بل بالأحرى في مناطق ینابیع الفرات ودجلة، وھذا ما یفسر قلق تركیا من الكورد الانفصالیین، وخوفھا على منشآت سد أتاتورك، حیث تقوم قوة تركیة یربو عددھا على خمسة آلاف جندي، مسلحین ومزودین بمروحیات، لحمایة السدّ ومنشآته، واتھمت أنقرة سوریا بإیواء مجموعات “حزب العمال الكوردستاني” وإذا كان لواء إسكندرون مصدر توتر سوري_تركي في العقود السابقة، فإنّ قضایا الخلاف حول المیاه والكورد أصبحت جدیة، وقد تتحوّل المیاه إلى سلاح سیاسي بما یفوق دورھا التنموي في الري والزراعة.


ليفانت – ماھین شیخاني

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!