الوضع المظلم
الجمعة ٢٦ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
رؤساء سورية وطنيون أم موظفون؟ شكري القوتلي (أبو الجلاء)
طه الرحبي 


شكري القوتلي، أبو الجلاء، حكم عليه بالإعدام ثلاث مرات، باع أملاكه لدعم الثورة السورية الكبرى، دمر الفرنسيون منزله في الشاغور، اعتقل ونفي أكثر من مرة، قال للسفير البريطاني “تيرانس شون”، حين زاره في منزله وطلب منه مغادرة دمشق التي كانت تقصف بالمدفعية من الفرنسيين: “ألمثلي يقال هذا؟ أنا لم أغادر دمشق ولن أغادر دمشق، وأريد أن تنقلوني (كان يعاني من نزيف في المعدة) إلى مدخل المجلس النيابي، لأستشهد مع هؤلاء الأبطال”. ثم قال له أمام والدته وزوجته وأولاده: “ما عندي أغلى من ديني ووطني وهؤلاء، فوالله لو قطعتم أصابعي بعد أن دمّر الفرنسيون بلدي، لن أوقّع لهم ما يريدون”.


والقوتلي أول رئيس منتخب يتعرّض لانقلاب في الشرق الأوسط بعد رفضه توقيع اتفاقية “شركة التابلاين”، مرور النفط عبر الأراضي السورية، واتفاقية الهدنة مع إسرائيل، قاد الانقلاب حسني الزعيم في مارس 1949 بدعم أمريكي، وفقاً لما أكده ضابط الاستخبارات الأميركية المقيم في دمشق حينها “مايلز كوبلاند” في كتابه “لعبة الأمم”.


ولعب القوتلي دوراً كبيراً في تأسيس الجامعة العربية، وعمل على تأسيس وتسمية جيش الإنقاذ ضد الصهيونية، “موّلته سورية بنسبة 25%”، ومدّ المجاهدين الفلسطينيين بالمال والسلاح .


أطلق عليه جمال عبد الناصر لقب “المواطن العربي الأول”، وقال القوتلي عن جهاز الحكم أيام الوحدة، بأنّه “جلاد الشعب”، اعترض على قرار التأميم 1961، قائلاً: “أخاف على الوحدة التي صنعناها معاً يا أبا خالد، أخاف عليها من هذه القرارات الارتجاليّة وغير المدروسة”، وقال أيضاً عن جهاز الحكم: “لو طال به الزمان لآل مصير الجمهورية كلها إلى مجموعة أقاليم يحكمها أفراد متنافرون، جهاز غريب عجيب، أنبت للجسم الواحد عدة رؤوس، وللرأس الواحد عدة ميول ونزوات وشهوات”.


وقف مع الملك عبد العزيز آل سعود، ودعمه ضد الهاشميين، وأرسل المستشارين والأطباء للمساهمة في تأسيس المملكة، منهم الشيخ يوسف ياسين، ابن مدينة اللاذقية المقرّب من الملك، وكان له دور كبير في وزارة الخارجيّة.


قال لرئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، حين اجتمع به في السعودية: “شعبنا لن يكبّل وطنه بقيد العبودية والذلّ والاستعمار حتي لو أصبحت مياه هذا البحر الزرقاء حمراء قانية”.


وشكري محمود القوتلي، ولد في حي الشاغور الدمشقي عام 1891، حكم لفترتين (1943- 1949)، (1955– 1958) تعلّم في دمشق وحفظ القرآن الكريم قبل أن ينتقل إلى إسطنبول لدراسة العلوم السياسية والإدارية في المعهد الشاهاني الملكي.


عمل في مكتب الوالي بدمشق قبل أن ينتسب إلى الجمعية العربية الفتاة التي أسسها مجموعة من الطلاب في باريس 1911، وكان لها دور في التمهيد للثورة العربية الكبرى 1916، قام بنقل السلاح إلى الحجاز بعد مبايعته للشريف حسين، فاعتقله جمال باشا السفاح والي دمشق، وفي السجن حاول الانتحار بقطع شرايين يده اليسرى، وبقي في المعتقل حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.


أصدر الجنرال “هنري غورو” فور دخوله دمشق قراراً بإعدام القوتلي، لمعارضته للاحتلال ولنشاطه السابق، فهرب إلى القاهرة وأقام هناك بدعوة من الملك أحمد فؤاد الأول، وأسس المؤتمر السوري الفلسطيني لمعارضة الانتداب الفرنسي على لبنان وسورية والبريطاني على فلسطين.


عاد القوتلي إلى دمشق بعد العفو الفرنسي 1924، وكان من الداعمين الأوائل للثورة السورية الكبرى التي انطلقت 1925، وطالبت بالاستقلال ووحدة البلاد.


لم يتردّد القوتلي في بيع أملاكه لدعم الثورة ودفع رواتب شهرية للثوار، ووصلت تبرعاته إلى نصف مليون ليرة ذهبية، كما عمل على جمع التبرعات من الجاليات العربية في المغترب، والتقى في مصر سعد باشا زغلول وحصل على دعم منه للثورة، ونتيجة لهذا النشاط قامت السلطات الفرنسية باعتقاله مع عبد الرحمن الشهبندر وجميل مردم بيك وتم نفيهم إلى جزيرة أرواد، وبعد الإفراج عنه دمر الفرنسيون منزله وحكموا عليه بالإعدام ليغادر سورية مرة أخرى بعد العفو عنه.


شكل الوطنيون بعد نهاية الثورة الكتلة الوطنية لمقارعة الاحتلال، سياسياً وقانونياً، وأضحى عضواً في مجلسها الدائم الذي ضم هاشم الأتاسي وسعد الله الجابري وجميل مردم بك وفارس الخوري وإبراهيم هنانو.


وبذهنيّة ومهارة القائد، قام القوتلي بتأسيس معمل الكونسروة 1932 لتمويل الكتلة ومساعدة ذوي المعتقلين والجرحى برأس مال 30 ألف ليرة عثمانية، وزار كافة المدن السورية للمساهمة في المشروع بقيمة ليرتين للسهم الواحد، وتم تداول أسهم الشركة في سوق البورصة وتصدير البضائع إلى عدة دول، وكان يرسل من منتجات الشركة التي استمرّت حتى تأميمها من نظام البعث 1965 للملك عبد العزيز والملك فاروق الأول ورئيس وزراء العراق، نوري السعيد.


قاد القوتلي الإضراب الستيني الذي أطلقته الكتلة الوطنية بعد وفاة إبراهيم هنانو 1935، واعتقال نائب دمشق، فخري البارودي، فقامت السلطات الفرنسية بإغلاق مكتب الكتلة في دمشق ووضع القوتلي ولطفي الحفار ونسيب البكري تحت الإقامة الاجبارية، ونفي جميل مردم بك وفصل فارس الخوري من عمادة كلية الحقوق.


بعد انتهاء الإضراب الستيني، توجّه وفد إلى باريس للمفاوضات 1936 بقيادة هاشم الأتاسي وعضوية الجابري والخوري مردم بك، وبقي القوتلي رئيساً للكتلة في غياب الأتاسي، وخلال هذه الفترة دعم المجاهدين الفلسطينيين بالمال والسلاح، وأسس “لجنة الدفاع عن فلسطين”، ووقع الوفد معاهدة مع رئيس الحكومة الفرنسية، ليون بلوم، تؤكد حصول سورية على الاستقلال التدريجي خلال 25 سنة، فقدّم الرئيس “محمد العابد” استقالته لتجري انتخابات نيابية ورئاسية، فاز القوتلي بمقعد نيابي عن دمشق، والأتاسي برئاسة الجمهورية، وأسندت حقيبتي المالية والدفاع للقوتلي.




 




استغلّ رئيس الحكومة، جميل مردم بيك، غياب وزير المالية، القوتلي، وجدّد بعض العقود الاقتصادية مع فرنسا، أهمها التنقيب عن النفط وتبعية المصرف السوري لفرنسا، مما أثار غضبه واستقال في مارس 1938.


نفي القوتلي مرة ثانية بحجة تعاطفه مع النازية، وبعد سقوط باريس دخل الجنرال شار ديغول، قائد المقاومة الفرنسية ضد النازية، دمشق 1941، وأعلن استقلال سورية مع بقاء الجيش الفرنسي حتى نهاية الحرب، ولكن الكتلة الوطنية رفضت هذا الطرح، فتم تعيين تاج الدين الحسني رئيساً، وبعد وفاة الأخير 1943 أعلن عن انتخابات رئاسية مبكرة، قررت الكتلة الوطنية ترشيح القوتلي، وحصل على شبه إجماع في 17 أغسطس 1943، مع دعم وتأييد من الملك فاروق والملك عبد العزيز، ومعارضة من الملك عبد الله بن الحسين.


بمرور بضعة أيام فقط طالب القوتلي المفوضية الفرنسية بتفعيل الاستقلال وإلغاء المادة 116 من الدستور، التي حملت بطياتها التبعية، ولكن سلطات الاحتلال كعادتها نكصت بوعودها ودعت لاتفاقية جديدة.


بعث القوتلي برسائل للرئيس الأمريكي، روزفلت، والروسي، ستالين، والصيني، تشانغ كاي، للحصول على دعم منهم من أجل الاستقلال. واجتمع مع ونستون تشرشل والملك فاروق والملك عبد العزيز في القاهرة 25 فبراير 1945، وفي اليوم التالي، أعلن من دمشق الحرب على دول المحور، وعلى أثرها تم التبادل الدبلوماسي بين سورية وواشنطن، وعين ناظم القدسي سفيراً في الولايات المتحدة، وتمت دعوة سورية للانضمام للأمم المتحدة، وعين فارس الخوري رئيساً للوفد السوري المؤسس في الأمم المتحدة.


في 19 مايو 1945، قرّر القوتلي والرئيس اللبناني، بشارة الخوري، تجميد المفاوضات مع فرنسا لحين الإعلان عن الجلاء من البلدين، وجاء الرد بقصف دمشق في 29 مايو بعد أن طلبت القوات الفرنسية إنزال العلم السوري عن المجلس النيابي ورفع العلم الفرنسي، فرفض الدرك وأطلق عليهم الرصاص الحي وأحرق المجلس.


خاطب القوتلي الدول قائلاً: “مجزرة رهيبة يندى لها الجبين حدثت في دمشق”، وعليه صدر إنذار بريطاني شديد اللهجة مطالباً فرنسا بالانسحاب دون قيد أو شرط، وفرضت إنكلترا وقف إطلاق النار في الأول من يونيو، وباشرت فرنسا بالانسحاب وسلمت المطارات والمستشفيات والمدارس والسجون للحكومة السورية، وأعلن القوتلي يوم 1 أغسطس 1945 عيداً وطنياً لتأسيس الجيش و17 أبريل 1946عيداً للجلاء.


قبيل انتهاء ولايته عمل على تعديل المادة 68 من الدستور التي حددت ولاية الرئيس بأربع سنوات، ورغم المعارضة الشديدة من بعض الرموز الوطنية تم تعديل المادة للسماح له بولاية ثانية، وحصل على 123 صوتاً من أصل 125، ليمضي في ولايته الثانية.


في 30 مارس 1949 اعتقل قائد الجيش، حسني الزعيم، الرئيس القوتلي ورئيس الوزراء خالد العظم، بتهمة عدم تسليح الجيش بشكل جيد قبيل حرب فلسطين 1948، وسرقته لخزينة الدولة ونُشرت استقالة القوتلي في 6 نيسان موجهة للشعب، وصودرت أملاكه وسمح له بالمغادرة ليستقرّ في مصر.


قرّر القوتلي العودة إلى سورية بعد سقوط الشيشكلي 1954 والإعلان عن عودة الحياة الدستورية، وترشح للرئاسة وحصل في المجلس النيابي على 91 صوتاً مقابل 51 لخالد العظم، وخلال رئاسته فضّل التقارب مع المعسكر الشرقي في الحرب الباردة، ووقف ضد حلف بغداد والتقارب العراقي التركي، وقطع العلاقة مع بريطانيا وفرنسا إبان العدوان الثلاثي على مصر 1956.


قام بطرد السفير الأمريكي، جميس موس، والملحق العسكري والسكرتير الثاني في أغسطس 1957، بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم، وردت أمريكا بطرد السفير السوري في واشنطن، فريد الزين، وفي نفس الشهر عرضت الولايات المتحدة مساعدة 400 مليون دولار (الميزانية السنوية 100 مليون) مقابل السلام مع إسرائيل، كما تعرّضت سورية لتهديد تركي بضم حلب 1957 نتيجة للتحالف السوري السوفييتي.


قام رئيس أركان الجيش السوري، عفيف البزرة، مع مجموعة من الضباط بزيارة مصر في كانون الثاني لسنة 1958، للمطالبة بالوحدة بين البلدين، وبرئاسة عبد الناصر، دون علم القوتلي وحكومته، وعند سماعه أرسل وزير الخارجية، صلاح البيطار، لتكملة المفاوضات ودعم جهود الضباط، وطلب عبد الناصر أن تكون وحدة اندماجية مع حل جميع الأحزاب السياسية، فوافق البيطار ووقع القوتلي على ميثاق الوحدة في العاصمة، القاهرة، في فبراير 1958، وتنازل عن رئاسة الجمهورية.


ابتعد القوتلي عن الساحة السياسية، ومع ذلك كانت الصحافة السورية تسلط الأضواء عليه في كل مناسبة، الأمر الذي أثار عبد الناصر، وأصدر قراراً إدارياً جاء فيه: “الأضواء يجب ألا تُسلط بعد اليوم إلا على شخص سيادة رئيس الجمهورية، دون غيره من الشخصيات”.


وظهر الخلاف بين الرجلين عندما منع عبد الناصر عزف النشيد الوطني السوري، ومنع إقامة الاحتفالات بعيد الجلاء، وزاد الخلاف بعد قرار التأميم.


وبعد الانفصال في 28 أيلول 1961، بقيادة عبدالكريم النحلاوي، ألقى القوتلي خطاباً متلفزاً من سويسرا حيث يتلقّى العلاج، ووجه انتقادات لاذعة للوحدة وعبد الناصر، وفضل التقاعد على العمل السياسي رغم المطالبة بعودته.


عاش الرئيس القوتلي للوطن ومات للوطن، فقد أصيب بذبحة قلبية حين سمع نبأ سقوط الجولان، وتوفي على إثرها في 30 حزيران سنة 1967، تاركاً وراءه إرثاً وطنياً في الدفاع عن الوطن والمواطن، ونقل جثمانه من بيروت إلى دمشق ليشيّع في موكب حافل لم يشهد له مثيل.


ليفانت – طه الرحبي 








 




النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!