-
ذكرى الجلاء في عيون السوريين
مرّت منذ أيام ذكرى مناسبة وطنية من المفترض أنّها عيد وطني، عيد استقلال الدولة السورية عن سلطة الانتداب الفرنسي. وبعد مرور عشرات السنوات على جلاء القوات الفرنسية عن الأرض السورية، لم يفضِ رحيلها إلى استقلال كامل للشعب السوري والدولة السورية، كما هو الحال في واقعنا السوري الحالي الذي أصبح فيه عدة سلطات انتداب وليست سلطة واحدة.
واستطاعت سلطة الاستبداد في سوريا، المتمثلة في النظام السوري الجاثم على صدور السوريين منذ أكثر من نصف قرن، تبديد بذرة الحياة الديمقراطية الوليدة التي أعقبت جلاء القوات الفرنسية عن الأرض السورية، وتحويل سوريا لمزرعة وسجن كبير للسوريين على مدى خمسين عاماً، حيث استغلّت عصابة الاستبداد فترة عدم الاستقرار السياسي، التي أعقبت نهاية الانتداب الفرنسي، وفترة الانقلابات العسكرية، والاضطراب الذي حدث فتره خمسينات وستينات القرن الماضي، لتسيطر بحكم إفرادي سلطوي يتمثّل في حكم الحزب الواحد وسيطرة تلك العصابة على هذا الحزب وتحويله لمطيّة تحكم من خلاله سوريا حتى يومنا هذا، من خلال سيطرة الحزب على مؤسسات الدولة السورية والجيش السوري ومؤسساته الأمنية، والسيطرة على المفاصل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الدولة السورية، ومن ثم القيام بتحويل الحزب إلى شكل بلا مضمون فقط، عبارة عن شعارات فارغة، ونقل السلطة بالكامل من الحزب إلى هذه العصابة بشكل واضح لا لبس فيه.
وكانت النتيجة نظاماً قمعياً استبدادياً فريداً من نوعه على مستوى العالم، يضاهي في استبداده وسلطويته المطلقة كل الأنظمة القمعية التي مرّت سابقاً، في القرون السابقة، أنهى على مدى العقود الماضية الاقتصاد الوطني وفرّط بالتراب السوري وهجر الكفاءات والنخب السورية بعد ارتكابه مجازر الثمانينات بحق الشعب السوري، تحت غطاء حلفائه وصنيعته تنظيم الإخوان المسلمين، وما تبع ذلك بحجة إرهاب هذه الجماعة من اغتيالات وتكميم للأفواه ومصادرة للحريات ونهب للاقتصاد وفساد نخر المجتمع وفكك نسيجه المترابط منذ مئات السنين.
وكانت الطامة الكبرى، في ابتداع سلطة الاستبداد لنظام وآلية انتقال الحكم في دولة دستورها جمهوري، إلى نظام توريث، ليقوم الدكتاتور الأب بتوريث ابنه القاصر دفة حكم البلاد مستغلاً أبناء الطائفة التي ينتمي إليها، ليجعلها في مواجهة باقي إخوانهم السوريين ومستفيداً من تواطؤ المنظومة الدينية معه في هذا الأمر، بعد إحكام سيطرته على الجيش والأمن والمؤسسات الدينية.
تلك الطائفة التي تعرّضت لإرهاب هذا النظام مبكراً، وربط وجودها واستمرارها بوجود هذا النظام، من خلال سياسة الانطواء والخوف من الآخر وتعميق الشعور بالمظلومية، ودفعِ أبنائها رغماً عنهم للانخراط في المؤسسة العسكرية والأمنية للحفاظ على نظامه بعد إفقارهم في الأرياف السورية وإرغامهم على أن يكونوا حماة لهذا النظام المستبد.
وكانت المرحلة الثانية من ضياع سوريا، هي بوصول الطاغية الابن لسدّة الحكم في سوريا، والتي اتّسمت بسيطرة المنظومة الأمنية والعسكرية لهذا النظام على الاقتصاد السوري ومصادرته من الطبقة الاقتصادية في حلب ودمشق، وظهور أسماء مرتبطة بالعصابة ووكلاء يعملون لديها في إدارة الاقتصاد السوري واستئثارهم بمقدرات البلاد كـ"آل مخلوف" وغيرهم.
إنّ السلوك المرضي الذي يتّسم به النظام السوري ورأس هذا النظام، وعدم قبوله بأي مشاركة أو عملية ديمقراطية في سوريا أو أي عملية إصلاح، ينبع أساساً من تركيبة هذا النظام الذي أفرز هذه الشخصيات لتولّي مسؤولية حكم سوريا، سواء على صعيد مناصب رئاسة الجمهورية والمراكز الأمنية الحساسة، فاستخدام هذا النظام لأبشع الطرق والوسائل في قمع الشعب السوري وانتفاضته التي بدأت منذ عشرة أعوام، خير دليل على هذا المرض الذي يعتري هذا النظام وعدم قبوله بمن يقول لا أو كفى أو يريد إصلاح هذا الوطن.
ولعلّ الجريمة الأكبر التي اقترفها هذا النظام وهذه العصابة، بفتح أبواب سوريا على مصراعيها لدخول الميليشيات الشيعية الإيرانيّة والعراقية والأفغانية، ليشاركوه في إبادة وقمع هذا الشعب، بالإضافة لإطلاق عصابات القاعدة من قواعد إعدادهم في صيدنايا، التي كانت تتم بإشراف المنظومة الأمنية، لمساعدته في القضاء على ثورة الشعب السوري. ولا يخفى على أحد الدور الكبير لهذه التنظيمات في وأد ثورة الشعب السوري، وإعطاء المبرر للنظام في تدمير سوريا بحجة ومزاعم الإرهاب، والذي صنعه والذي دعمه، هو ونظام ملالي طهران ونظام المالكي في العراق.
وبالرغم مما سبق، لم يكتفِ هذا المجرم وعصابته بهذا الكم من الدمار، لم يستطع إطفاء شعلة الحرية التي اتّقدت في صدور السوريين فاستعان بالحليف الروسي، الذي لبّى نداء الطاغية واستغلّ هذه الدعوة للعودة إلى الظهور على المسرح الدولي كقوة دولية، عقب اعتبارها كقوة إقليمية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وعقب محاصرتها من قبل حلف الناتو وانضمام معظم جيرانها لهذا الحلف.
روسيا بوتين التي جربت أعتى منظومات الأسلحة، باعتراف قادتها في سوريا، وأصبحت لاحقاً العصابة ومنظومتها عبارة عن أداة طيّعة بيد الكرملين، فوقّعت هذه الأداة عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية التي تجعل من سوريا رهينة بيد الروس، قراراً واقتصاداً ودولة، وظهرت حالات كثيرة مؤخراً تؤكد استحواذ الجانب الروسي على القرار في سوريا، وأصبحت العصابة مجرد تابع للتوقيع فقط على ما تأمرهم به القيادة الروسية، وهذا التفريط الكبير في القرار والسيادة الوطنية السورية سيكون له تأثيرات طويلة لعقود على الشعب السوري، ولكن ما يحزّ في النفس ويظهر مدى ارتهان القرار الوطني والتفريط الكبير، ما قامت به هذه المنظومة الاستبدادية بالرمز الوطني المتمثل بعيد الاستقلال، من خلال الاحتفال بهذا العيد في القاعدة الروسية في حميميم، مركز صنع القرار السوري، وبمشاركه شكلية من رموز النظام السوري، وفي ظلّ ظهور عسكري كبير للروس في هذا الاحتفال، بحيث يكون الانطباع لكل من يرى هذه المأساة.
إنّنا نحتفل بعيد الاستقلال من محتلّ في قاعدة محتل آخر، وما يثير السخرية، يأتي هذا الاحتفال في ظلّ تواجد خمسة جيوش أجنبية على الأراضي السورية، فكيف يحتفل هذا النظام بهذه الذكرى الوطنية الغالية على السوريين، وهو بنفس الوقت السبب الرئيس لوجود خمس سلطات انتداب واحتلال بدلاً من واحدة؟ وتترافق احتفالات هذا النظام البائس مع وقوع أغلب الشعب السوري تحت خط الفقر وانعدام كل البنى التحتية وتهالك ما تبقى منها وانهيار المنظومة الغذائية والصحية والتعليمية. في خضم كل هذه المآسي، يقوم النظام بالاحتفال بوقاحه بعيد الاستقلال.
ومما سبق، لا استقلال لسوريا ولا حرية لشعبها ولا إعادة لبنائها في ظلّ وجود هذه المنظومة الإجرامية المستبدة، وبالتأكيد نظام بلا قيمة سيكون من السهل لحلفائه التخلّي عنه مقابل أي صفقة قادمة، ونحن كسوريين يجب أن ينطلق كل منا من موقعه، ومن واجبه اتجاه سوريا، والعمل على تقديم ودعم كل ما يجمع السوريين، والابتعاد عن كل ما يفرقهم، والسعي لخلاص سوريا وتحقيق استقلالها ليكون الاحتفال بذكرى الجلاء مصحوباً بحرية سوريا وشعبها. سوريا التي يجب أن تكون لكل السوريين، تسودها الحرية والعدالة التي من خلالها يمكن إعادة البناء على أسس سليمة.
ليفانت - عبد العزيز مطر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!