-
ذروة التوتر إلى أين؟
قالها الخامنئي عند انتهاء حربه مع العراق معنِّفاً مستشاريه وقادته "ابحثوا لنا عن عدوٍّ جديد"، الحرب ديدن الديكتاتوريات، والتوتر الدائم في المحيط، والعدو المغروس قسراً في الرؤوس متربص بالبلد والنظام الحاكم شماعة العسكرة والفساد والفقر والجهل، سوط يهوي على الأجساد قبل الأسماع، لكبحها ووقف حركة دماغها وحرمانها من إنسانيتها وحقوقها، بوتين والولي الفقيه وبشار الأسد ونصر الله، وغيرهم كثيرون، يكررون تمثيل المشهد دون ملل أو خروج عن النص.
بلد واسع الجغرافية بعدد سكان يُحصى بمئات الملايين، مثل روسيا، يقوده رجل واحد، اختزل في نفسه قيادة الجيش والقضاء والاقتصاد والهواء والماء، حتى تخاله، عندما يتحدث إلى إحدى مكونات الشعب الروسي أو كلها، إلهاً متعالياً يحتاج انحناءة كبيرة ليتمكن من رؤيتها، هو بوتين، إنه روسيا، وروسيا هو.
منذ أن تولى الرئاسة دأب على اصطناع الحروب، فما يكاد يخرج من حرب حتى يدخل أخرى، من جورجيا إلى الشيشان إلى القرم إلى سوريا ودونباس وأوكرانيا مدفوعاً، إضافة لترسيخ حكمه المطلق، بفكرة التوسع القيصري، مستلهماً تجربة الاتحاد السوفياتي البائد، غير أن حربه التي يخوضها اليوم من خلال غزوه أوكرانيا هي الأشد خطورة على مصيره شخصياً وعلى مستقبل بلاده، حيث تسبّبت بتوتر كبير بات يهدد السلام العالمي.
خرجت حرب بوتين على أوكرانيا عن كونها "عملية خاصة"، كما أسماها، لتغدو شعلةً قد توقد حرباً كونية، فهي تهدد أمن أوروبا وتثير قلقها من احتمالية تمدّدها إلى بلدان أخرى ضمن القارة مع ما يجلبه ذلك من تأثيرات سياسية واقتصادية، كما يثير الغزو الروسي أوكرانيا قلق أمريكا، التي باتت تخشى من تغيير النظام العالمي وبروز قطب عالمي ينافسها عسكرياً على الأقل، وهي المشغولة اليوم بكبح جماح التنين الصيني الذي ما تزال النيران التي ينفثها تلتهم جغرافيات جديدة، لا سيما في إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
اتفقت رؤية أوروبا وأمريكا على ضرورة التصدّي لتمدد بوتين، وعملتا معاً على دعم أوكرانيا بأكبر قدر ممكن من السلاح والرجال والأموال علّها تكسر غرور القيصر، وتردعه عن تطلعاته الأخرى، وأثمر دعمها عن تكبيد روسيا الكثير من الخسائر ومنعها من احتلال كييف، بل وانسحابها تحت وابل ضربات السلاح الغربي بأيدي الأوكرانيين، ورغم إحرازها تقدّماً معقولاً شرق أوكرانيا إلا أن ذلك يبقى أدنى من طموحات بوتين ولا يرضي غروره ودولته العظمى.
لعلّ ذلك هو السبب الذي دفعه لتكثيف نيرانه على أوكرانيا معتمداً ذات النهج الذي اتبعه في سوريا والقائمة على سياسة الأرض المحروقة، يقصف المدنيين والأسواق والمدارس والحجر، فلا يدخل جيشه المدعوم من قديرف أزعر الشيشيان مدينة إلا وقد أفناها ودمرها، كما فعل في مدن سورية قبل أن يرسل صبيّه "النمر" لدخوها، لقد رفع بوتين مستوى التوتر إلى درجة غير مسبوقة لا سيما مع منعه تصدير الحبوب الأوكرانية، بل وسرقة الكثير منها وبيعها لحسابه لدول تتبع له مثل سوريا، إضافة لتقنينه تصدير الغاز والنفط إلى القارة الأوروبية وتهديده بوقفه تماماً، عدا عن تلويحه بأن القادم أعظم من خلال تصريحه بأن حربه على أوكرانيا ما تزال في مراحلها الأولى.
توتر لا تبدو له ملامح تخفيض عبر الدبلوماسية، بعدما انقطعت شعرة اللباقة السياسية بسخرية قادة الغرب في مؤتمر الدول السبع في برلين، الشهر الماضي، من بوتين شخصياً، وازدراء وزراء خارجية دول العشرين في اجتماع بالي في إندونيسيا مؤخراً للافروف، وزير خارجية روسيا، واضطراره للانسحاب والمغادرة، وسط غضب واضح من بوتين نفسه.
وعلى ذلك تنحصر فرص تخفيض التوتر بهزيمة أحد الطرفين، أوكرانيا أو روسيا، وبما أنه ممنوع أن تُذلّ روسيا وفقاً لقادة غربيين مثل ماكرون، فإن هزيمة أوكرانيا أو استسلامها هو البديل الأكثر منطقية، لكن هذا دونه عقبات كبيرة أيضاً، أهمها أنه سيبدو هزيمة للغرب الذي قدّم الكثير من السلاح والرجال والمال لدعم أوكرانيا، إضافة لكون هزيمة أوكرانيا ستفتح الباب أمام طموحات أخرى لبوتين، وتشجّع الصين على سلك الطريق ذاته مع تايوان، وعلى ذلك كله اعتراض أوروبي وأمريكي لا يمكن التراجع عنه.
حاجة أوروبا ملحّة لإنهاء الحرب ووقف ما تتسبّب به من نزيف سياسي واقتصادي، فهي من تتكفّل بدفع ثمنها الأكبر، وتعاني منها مع الأوكرانين أشدّ المعاناة، تجاوزت آثارها التضخم وارتفاع الأسعار ونقص عديد المواد الغذائية إلى التأثير على مستقبل قادة أوروبيين، فسقط جونسون في بريطانيا، وفقد ماكرون أغلبيته البرلمانية في فرنسا بتأثير مباشر وغير مباشر من هذه الحرب، ولا أحد يستطيع أن يحصر الخسائر السياسية لبقية قادة أوروبا ما لم تجرِ انتخابات فيها.
الخصومة الدبلوماسية غير المعهودة وتوقف كل قنوات الاتصال توحي بتبييت أمريكا وأوروبا أمراً جللاً فيما يخصّ روسيا، وبات احتمال التخلص من القيادة الروسية "بوتين شخصياً" وارداً بقوة، والطريق المتوقّع أن تسلكه يتمثّل بدعم قيادات عسكرية ومدنية روسية للانقلاب عليه، وليس لديها رفاهية الوقت، وقد تحتاج للقيام بذلك خلال وقت غير بعيد، ولها في هذا سوابق في بلدان عدّة، ومن الواضح أن ليس لديها بدائل أخرى، فهل تفعلها؟
ليفانت - عبد السلام حاج بكري
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!