الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
حكم السبّابة المجيدة
فرح يوسف

في سنيني الأولى، وككثير من الأطفال السوريين، أرسلني والداي إلى روضة للقبيسيات، تعلمت هناك القراءة التي كان والدي قد بدأ بتعليم أساسياتها لي قبل عامي الثالت، والأرقام والأحرف الانكليزية، وتعلمت أيضاً أن التروما ليست شيئاً يُشفى بالزمن وحده.


لم أكن بعد تعلمت نطق كل حروف لغتي حين علموني أن الجلسة الصحية تتضمن سد الفم بالسبابة، ترفع رأسك وتشد كتفيك وتضم ركبتيك، كلها مظاهر اعتزاز بنفس ليس مسموحاً لها أن تتجاوز حكم السبابة.


كان للسبابة في روضتي قدسية عالية، نستخدمها في التشهد أثناء تدريبات الصلاة، وفي تحقيق الجلسة الصحية، وفي الوعيد بحبسنا بإغلاق الأبجور الميكانيكي الذي ما زلت أكرهه حتى بعد انقضاء عشرين سنة على وجودي في غرفة مظلمة لا نرى فيها سوى حجاب المعلمة وياقات بعضنا، نبكي كصيصان مذعورة، ونبوس التوبة أخيراً بوساطة إحدى المعلمات، مجدداً باستخدام السبابة المباركة.


سأعرف لاحقاً أن لا شيء صحي في تنشئتي الأولى خارج أسرتي الوديعة، لم يكن أحد يروّض لساني الثرثار في بيت جدي الذي كنت أهرب إليه كلما شعرت بحاجة إلى التدليل والإفساد، وكلما احتجت دفاعاً عن حقي في المشاكسة أمام أمي التي لا تتسامح كثيراً مع نشاطي الذي كان يأخذ أشكالاً إجرامية أحياناً.


لم يسألني أحد عن مشاعري حين قدمت سيارة مشفى الأمراض العقلية واقتادت ابن جيراننا بينما يصرخ ويتفجع كمذبوح، ويغضب ويزبد ويسبّ أمه المسنّة، قالوا لي "لا تخافي"، وكلما فتحت فمي لأسأل أو أناديه رفعوا في وجهي سلطة السبابة، هششش يا صغيرة كل شيء سينتهي سريعاً.


لم أكن خائفة منه، لم أخف منه أبداً، حتى حين كان يضرب بذراعيه ويرفس الباب فيكاد يقتلعه لم أكن أخاف، كنت أحب ابتسامته وضحكاته، وأحب أنه طفل صغير في جسد كبير، وكانت تسعدني مفاجأة العثور عليه في شرفتنا بعد أن يقفز من بيتهم إليها، كان التمثيل الأقرب لذهني الطفل عن الحرية المطلقة والشجاعة التي لا يقيدها خوف أو حسابات منطقية، كان بطلاً بنظري.


ولم أفهم يومها ولم يكلّف أحد نفسه عناء شرح ما حدث لي، لماذا يأخذونه رغم رغبته في البقاء ببيته؟ لماذا تقبل أمه رغم الحزن الواضح على وجهها؟ لماذا يكون الحكم في المسألة لإخوته الذين لا يعيشون معه في بيت واحد؟ ولماذا عليّ أن أسكت وأنتظر انتهاء الأمر؟ ولماذا لا يكون لنا قول في مصائر أصدقائنا؟


في الصباح التالي ارتديت صدرية المدرسة الزرقاء القبيحة، حملت حقيبتي وأنا ألعن الصندويشة التي عليّ التفكير بتصريفها قبل أن أجبر على تناولها في الفرصة، ونزلت بعد أختي التي سبقتني إلى مدرسة الكبار، المدرسة الابتدائية.


ركبت الباص وبدأت على الفور بالكلام، أمسكت العمود أمام الكرسي الذي أحب الجلوس فيه، الكرسي الأول المفرد طرف الباب، كنت أتحدث وأتحدث وأصف ما حدث في اليوم السابق، أذكر اسماً ثم أفكر أن المعلمة لا تعرف صاحبه، أسكت، أشرح موقع صاحب الاسم في الحكاية وأتابع، أتحدث وأتحدث ولا أهمل أي تفصيل عن السيارة المرعبة والممرضين القساة والجيران الأشرار الذين بدا عليهم الارتياح، وعند وصولي في السرد إلى رد فعل البطل تابعت بالسرعة ذاتها "وقال لماماته خراي عليكي" وتابعت دون أن أدرك فداحة اللفظ التي تفوهت به، لم يكن السباب عادة في بيتنا، لا أحد استخدم قبلاً لفظة خراء أمامي، كنا حتى ممنوعين من استخدام حمار أو كلب كشتيمة، وقاطعتني شهقة المعلمة وصراخها "فرح!".


لم أفهم بينما كنت أبكي في المقعد الأخير من الباص سبب معاقبتي، حرماني من الجلوس في المقعد الأول ونفيي إلى حيث يجلس "الكسالى"، وحين نزلت من الباص لم توجه لي المعلمة أية كلمة، استمرت بجلدي بنظرات لم يتم توجيهها لي قبلاً إلا في العقوبات الجماعية، وتناسيت الأمر.


في الفرصة دخلت المعلمة ذاتها الصف، تحمل سلة كبيرة من السكريات الملونة غير الصحية، بإمكاننا أن نشتري إذا لم يكن معنا صندويشة، أو إذا خبأناها بعناية جيدة، تقول معلمة الباص لمعلمتي أنني أعرف سبب غضبها، وأنها سترضى حين أكون جاهزة للاعتذار! أشك للحظة في القدرات العقلية لهذه المعلمة، لماذا لا تفهم أنني لا أعرف ذنبي الشنيع؟ ولماذا لا تفهم أنني لا أمانع الاعتذار حين أقتنع بأخطائي؟


لا تثق هؤلاء القبيسيات بتربيتهنّ، لا أجرؤ على الكذب في هذا المكان، لديهم رب جاهز دائماً لشوي أجسادنا بالنيران وقص ألسنتنا وبتر آذاننا فيما لو أخطأنا، من يجرؤ على إغضاب مندوباته؟ لكنها تبقى مصرة على أنني أعرف خطئي.


ثلاثة أيام طويلة مرت وأنا أجلس في المقعد الأخير من الباص، لا تُجاب نداءات يدي المرفوعة للإجابة على الأسئلة، ولا أحصل على نجمة على جبيني حين تكون وظائفي دون غلطة واحدة، وكلما طال الوقت انضمت واحدة جديدة لعصابة الجلادات، تنبذني وتحقرني وتسأل زميلتها ما إذا كنت اعتذرت أم ليس بعد.


في الليلة السابقة لاعتذاري صليت، طلبت لهذا الرب أن يغفر لي ما سأفعل، أن يسامحني على كذبي ويعفيني من نيرانه، وفي الصباح اعتذرت.


كنت أبكي وأقول أنني آسفة ونادمة ولن أكرر فعلتي، وأعانني على مشهدي الملحمي كل أفلام الكرتون اليابانية التي شاهدناها واحتوت في أكثر الأوقات على طفل مظلوم يطلب الغفران على ما لم يقترفه، تقول المعلمة بثبات "ما رح تقولي كلام عيب مرة تانية؟" أرد دون تفكير "ما رح قول"، وأمضي بإيماءة إلى المقعد الخلفي، فالامتيازات لا تعود دفعة واحدة.


استرجعت الحديث كله في رأسي لاحقاً، فكرت بكل ما قلته، وحين عدت إلى بيتنا سألت أختي بصوت خافت عما قاله بينما أنزلوه الدرج مغصوباً، ردت أختي أنه "كلام عيب"، اللعنة لماذا لا يجيبني أحد عن خطيئتي بالخصوص؟ ما الكلام العيب وماذا يعنيه؟ تجرأت وتابعت "بتعرفي كلمة خراي عليكي؟" شهقت أختي كما تشهق اليوم حين أستعمل لفظاً خارجاً أمامها، شهقة مكتومة يتبعها احمرار الوجه، "لا تقولي هالكلمة عيب!" أسأل عن معناها فأجده مخيباً، لا شيء شائن حقاً في هذه الكلمة، إنه تعبير سوقي وبهيمي بالطبع، رمي الفضلات هو ما نرى القردة تفعله في الوثائقيات، لكن ليس هذا المهم، من أين تعرف أختي هذه اللفظة المحرّمة؟ تقول أنها تعرفها وبس! وتنصحني بعدم استخدامها، لكن بعد فوات الأوان.


ليلتها بكيت كثيراً، لأنني وبعد انتهائي من هذه القضية تفرغت للتفكير في حزني على صديقي المسكين، صعدت إلى بيت جدي وجلست قرب الباب أنتظر أن يخبط منادياً لنا، فأتسلل مع جدتي إلى الصالون، نفتح العلبة الخشبية و"ننسل" سيجارة من باكيت المالبورو المحفوظ للضيوف، أناوله إياها من ثقب دائري فوق العتبة، فيهدأ ويغيب صوته، ثم يتعدل مزاجه ويبدأ بالغناء.


جدتي فهمت أنني حزينة ولن أنسى محاولاتها للكذب علي، إنه نائم تقول، وأفكر أن جدتي المسكينة ستحترق بالنار لأنها تريد مواساتي، جدتي الملائكية ستعاقب على حزني، ندخل وأضع رأسي في حضنها وأقول دون أي صيغة من صيغ الأدب "احكيلي حتوتة" وتبدأ بالسرد، كان يا ما كان في أميرة صغيرة، بيتا صغير... "لا احكيلي حتوتة الغنمة والذيب" "تكرم عَينكي" ترد جدتي بعربيتها الجزراوية المكسرة وتبدأ من جديد كان يا ما كان كان وتستمر إلى أن أغفو.


ثم عاد صديقي، لم تطل إقامته في المشفى، عاد ليملأ البناء صراخاً وزعيقاً وضحكاً وغناء، وعدت لأهرّب له السجائر دون علم أحد، لكنني لم أخبر المعلمة بشيء، لم أخبرها بعد ذلك بأي شيء ولم أشعر أنها تستحق خبراً جيداً.


مات صديقي، لم أكن قد رأيته من مدة طويلة، لكنني ليلتها بكيت طويلاً، بكيت حتى نمت، بكاءً واعياً هذه المرة، على كل الظلم الذي ذاقه وذاقته والدته لأنه وُلد في عالم لا يتسامح مع الاختلاف، بكيت وأنا أتمنى لروحه مكاناً أجمل، أكثر سلاماً وهدوء.


لاحقاً، توالت في حياتي السبابات، بأشكال وأحجام مختلفة، أكثر رمزية وأقل مباشرة أحياناً، لكنني حتى اليوم أشعر بقرصة في قلبي حين أشتم، وأحافظ على عهدي لنفسي بألا أكرر، أبداً، اعتذاري عما لم أفعل.


فرح يوسف - باحثة ومدونة

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!