-
حصادُ العشرية السورية السوداء لعام 2021
يا لقسوة هذا المشهد الذي ينطوي على الكثير من التوصيفات التي لا يستحسن التمادي في ذكرها لتعرية نظام فاشٍ مغرور ومتعسف، يجدّد حياته من خلال التهديد المستمر بالاعتقال والعقوبات القاسية. نظام يرأسه طاغية منفصم لكن كامل الأوصاف، يفرض طقوس الطاعة العمياء غير آبه بما يريده شعب مليء بطاقات الإبداع والتغيير. نظام لن يخرج من جلده أبداً، وسيبقى رهين العقلية التي حرقت البلد وشرّدت الولد. ولم يكتفِ بذلك على الإطلاق، بل عمل على تجريد ضحايا العنف الأبرياء من الصفات الإنسانية، من خلال وضعهم في قوالب أيديولوجية جامدة، أو توصيفهم بأنهم جماعات تخريبية إرهابية، كذلك إلصاق الصفات الشيطانية بالجماعات المتمردة على سياسته، كصفة العملاء أو المخربين أو الفوضويين في الخطاب السياسي، أو الرجعيين والظلاميين في الخطاب الثقافي.
في موازاة ذلك ذهب باحثون كثر إلى أنه لا توجد خسارة لا يكون الشعب مسؤولاً عنها، لأنك عندما تكون جاهلاً يعني أن تكون ضعيفاً ومسحوقاً، والجهل في نظر التاريخ خطيئة، بل وأكثر: جريمة. وما يعزّز هذه الفرضية مقولة "تشيسلاف ميلوش" في روايته الاستيلاء على السلطة: "إنّ الإنسان عندما يُسلّم إلى قوة قاهرة فإنه يصل إلى درجة الإعجاب بما يكره، وهو لا يريد أن يعترف بهذا أمام نفسه، فليس هناك طريقة أخرى للخلاص سوى أن تكون أقرب إلى مركز هذه القوة".
على المقلب الآخر ورغم أنّ منسوب العنف الموجه ضد المجتمعات المستبَدَّة ونوعيته وديمومته، ليست شيئاً بلا حساب في معادلة الاستبداد، فالأنظمة الفاشية ليست منفلتة، بعد كل شيء، من قيود المجتمع. رغم هذا لا يسعنا إلا التسليم ببربرية النظام السوري وهمجيته ووحشيته المرعبة، أيضاً ضرره غير المحدود على شعبه وعلى العالم، وكضرورة تُساق هنا يتوجب إبراز بعض المعطيات الراهنة لإثبات أنّ هذا النظام أوصل السوريين إلى دركٍ غير مسبوق من الدمار والإذلال والجوع والتشرد والهوان الوطني، ومنها: "تصدّرت سوريا قائمة الدول الأكثر فقراً بالعالم، بنسبة بلغت 82.5%، أيضاً قدّر صندوق النقد الدولي نصيب الفرد من الناتج المحلي بـ 2,807 دولار، مما يجعل سوريا سادس أفقر دولة عربية من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي... احتلت سوريا المرتبة (101) على مؤشر الأمن الغذائي التابع لمجلة "إيكونوميست" البريطانية. حافظت سوريا على المرتبة الأخيرة في قائمة مؤشر الفساد العالمي في التقرير السنوي الذي تصدره "منظمة الشفافية الدولية" لهذا العام، والذي يرصد حالتَي الشفافية والفساد في (180) دولة حول العالم. أطلق (مؤشر دافوس العالمي) تصنيفه السنوي للدول حسب جودة التعليم لعام 2021.
وبحسب المؤشر، فقد عدَّ كل من (سوريا، وليبيا، والصومال، والسودان، والعراق، واليمن) خارج التصنيف، كونها دولاً لا تتوفر فيها أبسط معايير الجودة في التعليم. حصدت سوريا المرتبة الأولى عربياً والتاسعة عالمياً في ارتفاع معدل الجريمة لعام 2021. وجاءت ضمن الدول في تصنيف أكثر عشرة أماكن خطراً في العالم، وكان الترتيب على النحو التالي: فنزويلا، تليها كل من غينيا الجديدة وجنوب أفريقيا وأفغانستان والهندوراس وترينيداد وتوباغو والسلفادور وغويانا ثم سوريا والبرازيل على التوازي".
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: "الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وكلما طال التهميش إنسانها يصبح كالبهيمة لا يهمه سوى اللقمة والغريزة"، هذه المقولة تصف بشكلٍ دقيق الواقع السوري اليوم دون مبالغة أو مزاودة، ومما لا شك فيه أنه وفي ظلّ السياسات الجوفاء الزائفة، وتكالب الداخل والخارج على سوريا، تحولت الأخيرة إلى قطعة جحيم تنذر ويلاً وسعيراً. وبالعودة إلى الفكرة الرئيسة في كون السوريين يتحملون الجزء الأكبر من مسؤولية انهيار بلدهم، فبسبب صمتهم الذي استمر عقوداً طويلة وخوفهم من التغيير، تغوّلت آلة العنف السورية عبر الزمن، واستطاعت لاحقاً ليّ عنق الثورة السورية بسهولة، ليتحوّل أبناؤها إلى ضحايا بائسين لأمراء الحرب وتجار الأزمات، الذين لا يقدمون سوى النفاق السياسي، عبر وعود هي مجرّد أكاذيب وادّعاءات باطلة. كما غدوا عبيد قضايا مخزية يتمّ تضخيمها عبر إعلامٍ يدّعي الوطنية، لاقتراح حلول ترقيعية بهدف تمديد الأزمة، وتكريس واقع العبودية والاستبداد لفترة أطول. وبعيداً عن تورّط
السوريين غير المقصود في كلّ هذا الخراب، لم ينفكوا حتى اللحظة يمنّون أنفسهم بفرج قريب في محاولةٍ يائسة للنجاة، ونستطيع الجزم يقيناً أنّ هموم الوطن ما زالت توجعهم، وتبعثرهم هنا وهناك، بينما يتسولون الفرح من مباراة لكرة القدم يفوز بها المنتخب الوطني ليكسر حاجز التوقعات المسبقة المخيبة للآمال، ويلتقطون شذرات الأمل من صورةٍ تُظهر كيف أضيء برج خليفة بمدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة بألوان العلم السوري، بينما راح صوت الراحل الكبير صباح فخري يصدح عالياً. ويؤذيهم في المقابل عزف النشيد الإيراني عوضاً عن النشيد السوري خلال مباراة في تصفيات كأس العالم لكرة السلة بين سوريا وكازاخستان، حيث لم يُبدِ لاعبو المنتخب السوري أي اعتراض مباشر رغم علامات الاستغراب، فظلوا صامتين حتى إكمال النشيد وصفقوا بعد نهايته. شعب يائس ومسحوق حُشر في مشروع القطيع، ما زالت تبكيه العبارة الشهيرة "من القاهرة.. هنا دمشق"، وتدغدغ مشاعره قصيدة جميلة عن الحبّ والأوطان المشتهاة، كما تطيب جراحه إنجازات أبناء الوطن في البلاد البعيدة رغم جبال الهزائم التي تعشش في العظام.
على أية حال، يصعب التقاط صورة ثابتة وواضحة المعالم للمشهد السوري بعد عشرية سوداء طاحنة. وحتّى الاعتدال والمرونة، وتلمّس الحلول السياسية الآمنة، وحثّ العالم على التدخل الإيجابي والمطالبة بتطوير وتطبيق الأعراف القانونية الدولية، جميعها ليست إلا تعبيراً عن إيقاع هادئ لصرخةٍ تصمّ الآذان بينما يتعرّض المدنيون في محافظة إدلب، وبصورة شبه مستمرة، للقصف من قبل قوات النظام وحليفته روسيا، إضافة إلى تهديدات يومية باحتمالات هجومٍ تركي على منطقة شرق الفرات، ولا ننسى المخاوف المتصاعدة من عودة داعش مجدداً، كذلك التوجس من النزعة الانتقامية التي يشدّد عليها نظام الأسد. ويزيد الطين بلّة ما يستشف من المواقف الدولية والإقليمية الأخيرة أن الأمور تسير نحو تعويم بشار الأسد، الذي لن يؤدي إلى الاستقرار في سوريا، على الإطلاق، بل سيدفع نحو مزيد من التوتر
والتصعيد. لا شك تمرّ على السوريين لحظات أمل هاربة من واقعهم الأسود، وعندما تمنّي النفس بأن دوام الحال من المحال، تظهر أزمة أسوء، وطوفان أشدّ. ما يدفعنا إلى اختصار الأسباب التي أفرزت هذه الحالة المستعصية بما قاله الألماني مارتن نيمولر: "في البداية جاؤوا للاشتراكيين، ولم أفتح فمي لأنني لم أكن اشتراكياً، ثم جاؤوا إلى النقابيين، ولم أفتح فمي لأنني لم أكن نقابياً، ثم جاؤوا إلى اليهود، فلم أفتح فمي لأنني لم أكن يهودياً، ثم جاؤوا إليَّ، وساعتها لم يبق أحد ليفتح فمه من أجلي".
ليفانت - عبير نصر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!