الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
حرب المياه وقصاص السوريين من بعضهم البعض
شفان إبراهيم


ثمة أفكارٌ شعبية لوصف عمل المسيطرين على مدينة سري كانيه، رأس العين، بـــ”الجائحة” الوطنية”، فهؤلاء سوريون يعاقبون سوريين آخرين، تحت بند التعامل بالمثل ما بين تبادل الكهرباء والماء بين تلك الفصائل والإدارة الذاتية المسيطرة على باقي المنطقة. لكن بالمحصلة، حين اندلاع المعارك في “نبع السلام” قالوا كما ادّعوا في عملية “غصن الزيتون” أنّهم جاؤوا ليخلصوا الأهالي من الظلم، فهرب الأهالي واستبيحت البيوت، وأمدت الظلم إلى الجوار القريب والبعيد، وبالمحصلة يُعاقب المدنيون الأبرياء، ويتحولون إلى وقود في تلك الصراعات.


حيث لا تنفك كتائب المعارضة السورية، عن معاقبة السوريين في محافظ الحسكة، إذ إنّ سلاح الماء الذي يعمدون إليه بين الحين والآخر، هو الورقة الأكثر فعالية ورواجاً وتأثيراً للضغط وحصار الإدارة الذاتية والأهالي المدنيين وكُل القاطنين في تلك المنطقة. فعلٌ يُمكن القول عنه نسفٌ لكل القيم والمعاني الإنسانية، وترسيخ لثقافة القصاص والموت، وإلغاء أيّ بعد للوطنية.


إذ إنّ غالبية الأهالي القاطنين في تلك المنطقة هم ليسوا فقط غير منتمين للإدارة الذاتية، بل وإنّ همهم محصور في كيفية تأمين معيشتهم وحياتهم. وفقاً لذلك، فإنّ ثلاثة مُحددات ملحة تفرض نفسها على لوحة الموت البطيئة لأهالي الحسكة وقراها:


المُحدد الأول: إنّ الإدارة الذاتية هي السلطة والآمرة الناهية في كل قرارات المنطقة، وبناء عليه فإن تأمين مياه صالحة للشرب والاستعمال البشري من مسؤولياتها وواجباتها تجاه المنطقة بحكم سيطرتها.


وتالياً، فإنّ قضية تكرار قطع المياه عبر توقيف ضخ محطة علوك المغذية للحسكة وريفها الغربي، إضافة إلى تل تمر وقراها بنحو 175 ألف متر مكعب من مياه الشرب يومياً، ولأكثر من /10/ مرات متتالية منذ عملية “نبع السلام” من قبل تلك الفصائل، وأنّ تركيا تتسبب بانخفاض منسوب المياه في سدّي تشرين والطبقة، يدفع العقل البشري للاستفسار عن أربع أمور متداخلة:


الأمر الأول: ماذا تفعل هذه الإدارة منذ /6/سنوات، خاصة وأنّها وفق تصريحاتها وأدبياتها تعاني من الرفض التركي لها، لماذا لم تشرف على مثل هذه المشاكل، والسعي صوب إيجاد محطة تغذية وتحلية جديدة للماء؟.


والأمر الثاني: عشرات المراكز البحثية للإدارة الذاتية، ومئات الإعلاميين وكثرة طافحة في عدد من يُطلق عليهم “محللين إستراتيجيين” وأزمة خانقة في عدد القيادات والأحزاب، ما دور كل هؤلاء؟، وماذا تفعل هيئة الطاقة؟، وما دور البلديات في الحسكة؟، ما لا يستطيع العقل البسيط فهمه، إن لم تكن تلك المؤسسات مسؤولة عن إيجاد الحلول للمشاكل التي يجب التنبؤ بها، ما دورها وما أهميتها، خاصة مع وعودهم بتأمين المياه خلال /29/ يومياً فقط، ولم تتأمن حتى /6/ أشهر، وما يزال الشك بمدى صلاحية تلك المياه للشرب قائمة.


وثالث الأمور: جشاعة وتجارة أصحاب صهاريج المياه وابتزازهم حاجة الأهالي للماء، والتفنن بسعر اللتر الذي وصل إلى/4000/ ليرة سورية للتر الواحد، يحمل من الندالة والخسّة ما لا يمكن إخفاءه.


والأمر الرابع: لماذا يتكرر مسلسل قطع المياه عن الحسكة، من طرف الفصائل المسلحة، والذي يوازيه قطع الكهرباء عن مناطق “نبع السلام”، من طرف الإدارة الذاتية، خاصة في ظل الظروف الصحية وانتشار جائحة كورونا بشكل مخيف بين أبناء الحسكة وحالات الوفاة التي تتسع دائرتها وإن ببطء؟. ولطالما أن لا أحد يستطيع إخراج تلك الفصائل دون توافق دولي على ذلك، فإنّ الأفضل إيجاد مخارج لعدّم الزجّ بالأهالي في أتون الصراعات، إن توفرت الرغبة والإرادة السياسية لذلك، هذا إن لم يكن ثمة رغبة ومساعٍ بزج المدنيين في الصراع أصلاً.


وثاني المُحددات: إلى متى ستبقى دائرة قتل السوريين للسوريين تتوسع، بدءاً من الانشطار الشعبي بين مؤيد ومعارض والتحاق كل طرف بجسد عسكري معارض للآخر، ومحاربة السوريين لبعضهم البعض في ليبيا وتوزعهم بين السراج، وخليفة خفتر، وما حصل في معارك غصن الزيتون ونبع السلام، وحالياً الحرب الأشرس والأسوأ، حيث الموت البطيء، والعطش المُخطط له، وتسبب السوريين المسيطرين على رأس العين بكارثة إنسانيّة لمليون سوري بمختلف مكوّناتهم؟.


والمُحدد الثالث: يبدو أنّ اللجنة المشكلة بين المجلس الكُردي والائتلاف السوري، لم تبصر النور، وهي بحاجة إلى إعادة تنشيط أو تفعيل، خاصة مع التشكيلات الجديدة لرئاسة الائتلاف. لكن الواضح والثابت أن لا أحد يملك “موانة” على تلك الفصائل، وهي بطبيعة الحال لا تحتكم لقرار السوريين في غالبية المساعيِ. وهو ما يحصر توجه المجلس الكُردي بالطلب من الجانب الروسي أو الأمريكي للضغط على تركيا، لإنقاذ الأهالي من الموت عطشاً، فهم الذين لم يحصلوا على الماء منذ أكثر من /20/ يوم. يقابله أنّ الجانب التركي لو أدرك أنه ثمة مطلب أمريكي أو روسي جاد، ما سمحت بقطع الماء ومنع محطة علوك من الضخ.


يبدو أنّ القضية تتجاوز أهالي الحسكة وحدهم، ورُبما هناك أسرار كامنة وراء مقايضة الماء والكهرباء بين الطرفين، كما هي حال التحكم بقضية الماء للتحول إلى صراعٍ غير مسلح، تتزعمه تركيا لإركاع أو مقايضة سوريا حالياً، ولاحقاً العراق.


هي “حرب المياه” في شرق البحر المتوسط، وها هي أصوات البنادق خفتت، فأطلت قضية المياه، كحربٍ جديدة/ قديمة، وهي الحرب الأشرس والأكثر دمويةً، فهي المرتبطة بالأمن الغذائي، كون الأمن المائي، يُعتبر جزر الحياة الزراعية والثروة السمكية ودورها في الاقتصاد الوطني، وأهمية الأمن المائي مرتبط بمصير الأهالي وحياتهم. ومع سيطرة تركيا على منابع أبرز الموارد المائية المغذية لسوريا والعراق، وهما نهري /دجلة والفرات/، كما يمثّل مياه حوضي دجلة والفرات إضافة للخابور نحو 56 % من المياه السورية، يدفع من جديد سياسات الإدارة الذاتية للسطح عبر طرح سؤال مُركب واضح، هل تمتلك الإدارة الذاتية خطط محددة للأمن المائي والغذائي، هذا الأمن الذي هو في جوهره وأساسه أهم من الأمن المتعارف عليه بالمعنى التقليدي من فروع أمنية، عسكرية، للمتابعة والرصد… وما شابه؟ وأيضاً أين تقف عمق العلاقات بين الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية والمجلس الكُردي من جهة مع الجانبين الروسي والأمريكي من جهة ثانية؟.


ووفق الغطرسة الأمريكية والإطار العام للسياسات الأمريكية، واحترامها لمواطنيها وقواتها، فإنّ وجود عسكري أمريكي واحد، أو رفرفة العلم الأمريكي في أيَّ مكان، يعني تواجد أمريكا نفسها، لكن الغريب وربما الطريف في الأمر، أنّ مقرّ اجتماعات الأطراف الكُردية مع ممثلي الإدارة الأمريكية، واجتماع هذه الأخيرة مع طرفي الحوار الكُردي– الكُردي، إنما يقع ضمن مدينة الحسكة، ومقر إقامة الأمريكيين في الحسكة، ضمن دائر النطاق الجغرافي المشمول بقطع المياه عنها. بمعنى آخر فإنّ تركيا والفصائل المسلحة تقطع المياه عن الوفود وممثلي الإدارة الأمريكية نفسها، صحيح أنّهم لا يشربون من نفس المياه التي نشربها نحن البشر العاديين المبتلين بلوثة الشرق والحكومات الدكتاتورية، لكنها تبقى مفارقة فحسب. فماذا عساها بقية الأطراف أن تفعل على الصعيد الدبلوماسي أو العلاقات؟.


رُبما يتغير الموقف، ويتحرّر الماء من قبضة الرقيب والمنع من التدفق إلى الحسكة، لكن الثابت أنّ القصاص الدائم مستمر، وأنّ السوريين تحولوا إلى أدوات للنهش والتنكيل ببعضهم البعض، والمفارقة أن لا قدّرة ولا إمكانية لهم للرفض أو التفكير، وهو ما يتوجب تغييره، وعودة القرار للسوريين، وإدارة السوريين لبلادهم، فهم أدرى بكيفية التعامل البيني فيما بينهم.


ليفانت – شفان إبراهيم



كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!