-
جيل الشباب: أحبه/ها ولا يـ/تحبني
النقطة التي ما زلت متمسكاً بها لليوم وتشكل لحظة مقارنة دائمة، هي الشباب ومشاكله، احتياجاته، فرصه، إمكانياته في إثبات وجوده، خاصة في هذا الزمن، حيث باتت كل محفزات الحياة تفقد معاييرها وتتبدل لشيء مختلف.
"أقله تزوجتم وعملتم فرحاً" تقول شابة عن جيلنا، بينما نحن نتزوج عبر الإنترنت وهدفنا الخروج من المحرقة السورية للدول الأوربية.
"أحبها كثيراً ولا أستطيع إكمال الطريق معها، لأن الأفق أمامي مسدود، فإما الجيش وويلاته، أو السفر تهريباً خارج البلد، وقد أنجو وقد لا" يقول شاب آخر، وينفصلان عن بعض والغصة تملأ قلبيهما.
"اضربها طناش وعيش أيامك" في تعبير يردده الكثير من الشباب أثناء متابعتهم جلسات التعاطي للمخدرات والتحشيش، المادة الأرخص من الدخان في الأسواق السورية وبسياسة ممنهجة لإحكام السيطرة عليهم. إنها تنسي الفرد همومه، لا بل وتقوده أيضاً للسعي للحصول على المال لشرائها، فتنفتح أمامه أبواباً واسعة من مبررات الجريمة والخطف والسلب والنهب.. وليس فقط بأن يعيش حياته كل يوم مع فتاة بدواعي الحب وصرف المال، وإثبات القدرة على مغايرة زمنه الذي فشل فيه بأن يكمل دربه مع من يحب أساساً.
خلال السنوات العشر الماضية، تبدلت أحوال السوريين كافة، تهجير، اعتقال، دمار، خراب... حتى العلوم التي باتوا يتعلموها باتت أقل من إمكانياتهم أو طاقاتهم، وبات الاستسهال في زمن الصعاب قانوناً حياتياً لا بل لحظياً، وباتت قيم الحب والحرية والصداقة قيماً يصعب حملها ومتابعة المسير فيها، فهي عبء أخلاقي يعرقل سير حياة الانحدار هذه.. وكلنا شهد في خلال هذه السنوات كيف بات كل فرد يبحث عن حلوله الفردية المحضة والسهلة، والعديد من الأسر المعمرة تفككت، سواء بالهجرة المتباينة والمتعددة الأطراف والجهات، أو بقرار الانفصال بغية تحقيق الذات الفردية التي لم تتحقق طوال سنوات من عصر الزواج الفائت، ولسان حالهم يردد أحبه/ها ولكن، لم تكن لحياتي وذاتي ووجودي من معنى سوى مفهوم الأسرة والإنجاب والرعاية بلا روح أو خيال أو أحلام، فبات الطلاق والانفلات الأعمى متعدد الجهات سمة العصر والنسبة الغالبة فيه.
الشباب، العنصر الحيوي في الحياة، مولد نشاطاته، تباينت محاوره، فثمة من ركب البحر، وثمة من ركب رأسه ونزواته، وثمة من دفن نفسه بين أربعة جدران، تؤمن له وسائل التواصل الاجتماعي القدرة على التواصل مع أي شاب/ة على الإنترنت، ويمارس حواراته وأفكاره وأهواءه عبر شاشة زرقاء، يستسهل الجلوس الطويل لساعات، ليجد نفسه بعد فترة أن هذه المساحة باتت تضيق أمامه، وتضيق عليه، وحين يخرج للحياة يجد نفسه غريباً عنها، غريباً عن طباعها، وليس فقط، بل مدججاً بطريقته الفردانية في التعامل مع أقرانه إلكترونياً، أي الاستسهال وعدم وجود القيم، ليصطدم بواقع مختلف يقوده لمزيد من العزلة والانكفاء والذي يظهر بأشكال وتمظهرات متعددة، منها تسويق الحياة السلعية، وخاصة قيم الحب والصداقة وإفراغها من محتواها القيمي، أو معاندة تيار التسويق هذا والبحث في مسالك النسيان، وبوابات المخدرات سهلة ويسيرة، وفي ضفة ثالثة تزداد حالات الانتحار والجريمة.
هكذا يحاول جيل من الشباب معاندة أشكال القهر التي باتت مكرّسة في المجتمع بكل تجلياته، وليس فقط، بل ثمة ما لا يمكن فهم مبرراته أو أهدافه! جيل أبيض القلب وجد الواقع أمامه أسوداً، فجذفت به في أصقاع شتى لتنفصل القيم عن الحياة، ولتصبح الحياة بذاتها مجرد عبء عليه التخلص من معيقاتها لتزداد لغة الفردية بمعناها الأسوأ، وهي عدم القدرة على الاندماج في مجتمع لا يتناسب مع رؤى وأحلام الشباب، بينما الفردية والتفرّد والقدرة على معاندة الجرف الهابط للقيم والحياة فهذه لم يتقنها الجميع بعد، وإن أتقنوها جزئياً، لم تعد منتجة أمامهم إلا إذا قرروا السفر والرحيل، أو المزيد من الانطواء والعزلة، وإلا فممارسة التعاطي وما قد ينتج عنه من حلول سهلة ويسيرة، والأهم من هذا تصبح معايير الصداقة والحب قيماً لا تمارس إلا للمصلحة، وانتفاء المصلحة ينفي القيمة من جذرها، فتجد الهيام والتشتت سمة غالبة.
حين كنت شاباً أتعلم ويعاندني القدر والظروف على الاستمرار، كما جيل الشباب حولي، وحين عملت نجاراً، كرهت الظلم كثيراً ولكنني أحببت مهنة النجارة، وكان الممكن بيسر أن أترك دراستي وهدفي وأحلامي، كما يفعل الكثير من شبابنا اليوم، كان من الممكن أن تجرفني الحياة لأن أصبح تاجر مخدرات، أو أقله متعاطيها حتى أوازن الفروق المادية والظلم الذي أستشعره حين أقارن نفسي بزملائي.. أحببت النجارة واحتفظت بشاكوش النجار لليوم في منزلي، وكلما ضاقت بي الدنيا، أو شعرت بالظلم والحنق، أو بالكثير من الازدراء في مجتمع لم يعد فيه قيمة للقيم الأخلاقية والعلمية والذاتية، وأقلها حرية الرأي، أخرج الشاكوش وأبدأ بالطرق به على بضع قطع من الخشب لساعات. أجل أمارس مهنة تفريغ الاضطهاد والقهر، وأعتقد أن جيل الشباب هذا لديه من الإمكانات الخلاقة والمبدعة ما تجعله يمارس مهنة الطرق تلك، وليس بالشاكوش حصراً، بل على آلة موسيقية، قراءة كتاب، تنشيط أرواحهم الذاتية أمام انسدادات الأفق المعتم، فهم قادرون اليوم على صناعة مستقبل يليق بهم، يليق بعصرهم، عصر هدم الأصنام والتفوق على الذات.
هم فلاسفة عصرهم حتى وإن لم يقرؤوا الفلسفة، فياكوب بوهم، الفيلسوف الألماني، كان يعمل اِسكافياً، ومعنى وجوده ذاك أنه صانع وجابر وعاقل، يتصور الحذاء قبل تصميمه، ويصنعه بعناية ودقة، كان منتجاً وصاحب قول، وهذا لا يتنافي مع تلك. وكل منا، وخاصة جيل الشباب، قادر على معاندة قسوة مجريات الحياة هذه وأن يصنع وجوده حين يدرك أهمية التصور والإتقان والعمل، ولا ضير من ممارسة الكثير مفرغات الشحنة بما يحب أن يفعله، لا أن يكتفي باستسهال المخدرات وتعاطيها وترديد ذات القول نحن جيل الحرب والموت، أحبها/ه ولا تـ/يحبني، فدعوني أعيش انفصالي عن الحياة بطريقتي.
طاقة الحياة وصناعتها، فرصة هائلة أمام جيل يعاند كل صنوف الانحدار، وتجلياتها السلبية لا تعني أنه لا يوجد من يصنع الفارق بعد، بل وجد صانعوا الفارق ولكن زمنهم لم يساعدهم بحكم المحرقة السورية الكبرى، وإن كانوا ينتظرون شيئاً فهو عدم التسرع بالحكم عليهم، فما إن يجدوا تلك البيئة التي توفر لهم القدرة على الفعل، سيصنعون الفوارق الضخمة، إنه عصر التجرّؤ على أن تكون حراً، وليس فقط وآخراً، بل الجرأة على امتلاك عقلك وأدوات صناعة الحياة حتى وإن كانت كل المغريات تقود خلافاً لهذا. فببساطة الحساب، صانعو سياسة الموت يفتحون الطرق السهلة للموت والقدرة على التحكم بجيل الشباب، حتى لا يعاندوا سلاسل قيدوهم المصطنعة.. وفيصل القول تـ/يحبك إن كنت قادراً على حمل هذه القيمة وصنعت من خلفها حياة تعاش وتنير دروب العتمة والهلاك.
ليفانت - جمال الشوفي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!