الوضع المظلم
السبت ١٢ / أكتوبر / ٢٠٢٤
Logo
  • جدل العلاقة بين الحريات الأكاديمية والنسق السياسي في العالم العربي (2 – 3)

جدل العلاقة بين الحريات الأكاديمية والنسق السياسي في العالم العربي (2 – 3)
عبد الله تركماني

يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 16 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط الماضي المنظور بحاضرنا العربي البائس.

مقدمات في أزمة النسق السياسي العربي

كثيرة هي التقارير والمؤسسات التي حاولت تصنيف دول العالم، وفقا لمدى تمتعها بالحرية السياسية ومدى احترامها لحقوق الإنسان الأساسية‏،‏ وقد اعتمدت في التقييم على مؤشرات عديدة، من أهمها:‏ انتخاب البرلمان - عدالة القوانين الانتخابية - حق تأسيس الأحزاب السياسية - سلطة النواب المنتخبين - وجود المعارضة - الشفافية - مشاركة الأقليات - مستوى الفساد - حرية التجمع والتظاهر - استقلالية القضاء - حرية الصحافة - الحرية الدينية - حكم القانون - حقوق الملكية.

لقد انتقلت الدولة، بمعناها الحديث، إلى البلدان العربية مع الاستعمار، الذي بدأ بإنشاء بعض مؤسسات الدولة وأجهزتها، فأقام برلمانات ومجالس محلية، وأنشأ جيشاً، ووضع، في بعض الحالات، دساتير وإدارات مالية وضريبية ومحاكم حديثة، وأجهزة شرطة وأمن.. الخ. غير أنّ عدم توفير شروط قيام دولة حديثة جعل هذه المؤسسات والإدارات والدولة التي نشأت بعد الاستقلال هشة، في مرتبة وسط بين الدولة القديمــة " دولة الملك/الأسرة الحاكمة/الحزب الحاكم " والدولة الحديثة " دولة الأمة/الشعب ". مما أدى إلى اتصاف الدول العربية بالتطور المحدود للنظام السياسي، الذي قام على انفصال الدولة عن الأمة، وبالتالي إلى غياب التوافق ما بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، بحيث لم تعد العملية السياسية تتطابق مع وحدة المجتمع نفسه. 


وفي ما يخص الأقلمة العربية لمفهوم الدولة الحديثة، فقد عجزت النخب الحاكمة عن تحقيق تعييناتها، أي عجزت عن أن تكون الدولة دولة مجموع مواطنيها. وفي المقابل استولت النخب الحاكمة على الدولة، وتحولت إلى سلطات لم تأخذ من أدوار الدولة سوى الجانب الأمني، من دون أي اعتبار للمفاهيم الأخرى كالمواطنة والديموقراطية والتنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي.  
وهكذا، تحرم الثقافة السياسية السائدة في الدول العربية المواطن، بما فيه الأكاديمي، من ممارسة حقوقه، وخاصة الحريات العامة والخاصة، وتتبع ممارسات تحرمه حقوقه المدنية، وتقيّد حق المجتمع في ممارسة حقه في نقد السلطة التنفيذية، والمطالبة بالمحاسبة الدستورية والقانونية للمقصرين والفاسدين، وتلحق السلطتين التشريعية والقضائية بالسلطة التنفيذية ما يجعلها سلطات صورية، وتصوّر ما تقوم به السلطة التنفيذية من واجبات وما تنفذه من برامج على أنه كرم من السلطة التنفيذية، وليس واجباً عليها تستدعيه طبيعة الدولة، ناهيك عن الدولة الحديثة.


إنّ الدولة التسلطية العربية، كما حددها الدكتور خلدون حسن النقيب، تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتداداً لسلطتها، فتحتكر مصادر القوة والسلطة والثروة في المجتمع، وتهيمن على كل مستويات التنظيم الاجتماعي ومختلف الجماعات والقوى الاجتماعية، من خلال سن شرائع وقوانين من دون قيود أو ضوابط. وينحصر دور الشعب، في هذه الحال، في الخضوع والطاعة والتبجيل و " الفداء بالروح والدم "، ويتحول القائد إلى ناطق باسم " حق مقدس معصوم "، فتُحرَّم النشاطات المدنية أو تُدجَّن، وتضيع بالكامل وتنحل استقلالية المجتمع إزاء دولة تفترسه إكراماً واغتصاباً، وتغدو كل المؤسسات، بما فيها الأجهزة الرسمية العسكرية والمدنية والقضائية، رهائن إرادة عليا تبتلع الجميع وتُسكت كل الأصوات.


باختصار، الدولة التسلطية العربية هي دولة مغايرة لدولة العقد الاجتماعي الحديثة، بكل ما تعنيه من قيم المراقبة والمساءلة والاحتكام إلى الشعب، دولة تتوغل سلطاتها في كل ثنايا المجتمع، وتفرض وصايتها وهيمنتها على الجميع، ليس فقط أمنياً، بل اقتصادياً وثقافياً وتربوياً.
ومن مآثر الدولة التسلطية العربية، غير الحميدة، إعاقة التنمية العربية وانحدار العالم العربي، اقتصادياً وثقافياً وعلمياً وتربوياً، حتى بالقياس إلى الدول المتوسطة النمو. 


وهكذا، فإنّ الدولة التسلطية العربية تدفع العرب إلى آفاق مسدودة، بإنتاجها الفقر والأمية والتخلف والاستبداد، وبعجزها عن المشاركة في ثورة العصر، ثورة " اقتصاد المعرفة " و " مجتمع المعرفة "، إضافة إلى هدرها الموارد والكفاءات.
أما في الدول المتحضرة، التي تكتسب سلطاتها شرعيتها من شعوبها، يمنح القانون الحريات الفردية والحريات العامة، وهذه الحريات هي المناخ الذي تترعرع فيه الطاقات الأكاديمية الخلاقة، حيث تكون تلك الحريات سببا أساسيا لتطور المجتمع وازدهار نسقه الحضاري. 
هجرة الكفاءات العربية

كان من نتيجة أزمة النسق السياسي العربي أن استفحلت ظاهرة هجرة الكفاءات العربية، إذ جاء في ورقة عمل حملت عنوان " هجرة العمالة العربية، الفرص والتحديات " قدمتها إدارة السياسات السكانية والهجرة في جامعة الدول العربية للاجتماع الأول لوزراء الهجرة العرب في فبراير/شباط 2008، أنّ نحو 70 ألف جامعي عربي يهاجرون سنوياً من مجموع 300 ألف متخرج سنوياً من الجامعات العربية، وأنّ عدد الأطباء العرب الذين يهاجرون سنوياً نحو البلدان الأوروبية يقدر بنحو خمسة آلاف طبيب. وقدّرت خسائر العالم العربي، بسبب هجرة الكفاءات، بنحو 1.57 بليون دولار سنوياً. 

وتعتبر ظاهرة هجرة الكفاءات والعلماء من الدول العربية إلى الخارج، أحد أهم العوامل المؤثرة على تطور الاقتصاديات الوطنية، وعلى التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية، كما تكتسب هذه الظاهرة أهمية متزايدة في ظل تزايد أعداد المهاجرين، خصوصاً من الكوادر العلمية المتخصصة.

على أنّ مراكز الدراسات وتقارير المنظمات الدولية والإقليمية، حددت جملة من الأسباب التي دفعت العقول العربية إلى الهجرة خارج الفضاء العربي، ومن بين أهم الأسباب الداخلية نذكر:

1 - إنّ التقدم الوظيفي في الدول العربية مرهون، إلى حد بعيد، بالتقرب من السلطات الحاكمة، كما أنّ المحسوبية تلعب دوراً حاسماً في التقدم الوظيفي، ودور الكفاءة والتقدم العلمي في الرقي الوظيفي هو هامشي بالمقارنة مع العلاقة مع أقطاب النظام والواسطة والتبعية السياسية والحزبية للسلطة.
2 - غياب حرية الفكر وحرية البحث العلمي وغياب الاحترام للعلماء، يشكل سبباً رئيسياً في بحث العلماء العرب عن مجتمع يحترم العلم والعلماء، ويحترم حقوق الإنسان مهما كانت أفكاره بعيدة عن أفكار النظم الحاكمة.
3 - تشير عدة تقارير عربية إلى عامل آخر بالغ القسوة، وهو القيود الخانقة ضد النشر وحرية الفكر، إذ هناك كثير من الأبحاث التي تمنع السلطات نشرها في البلاد، ويضطر أصحابها إلى النشر في الخارج، وأحياناً يعاقبون أيضاً على النشر في الخارج.
4 - إنّ ضعف وجود مراكز البحث العلمي في الدول العربية، يفاقم من الأزمة، حيث يستحيل الاستفادة من الأبحاث العلمية وتوظيفها في خدمة المجتمع، فتتحول الاختصاصات العلمية التطبيقية إلى اختصاصات نظرية، تنعكس على العالم والباحث من حيث تراجعه في مستواه العلمي أو في إمكان تطوير قدراته المعرفية. 
5 - لا يزال العالم العربي يتعاطى مع الأرقام بصفتها معطيات سياسية ذات حساسية على موقع السلطة، وتشير تقارير عربية إلى تدخل السلطة السياسية في أكثر من ميدان لمنع إصدار نتائج أبحاث أو دراسات، تكون الدولة تكبدت مبالغ لإنجازها، وذلك خوفاً من أن تؤثر نتائج الدراسات في الوضع السياسي السائد.

وهكذا، يمكن القول إنّ السبب الأساسي للهجرة متصل بغياب الديموقراطية في الدول العربية. والديموقراطية هنا ليست بمعنى توافر الحريات الفردية والعامة فقط، كي يشارك الأكاديميون في انتخابات حرة ونزيهة ويطالعون صحفاً مستقلة ويحمون كرامتهم من التعديات والانتهاكات الشائعة في بلدانهم، وإنما هي أيضاً التنظيم العقلاني للمجتمع، وبخاصة قطاع البحث العلمي الذي يحتاج ليكون أنموذجاً لمحاربة الفساد والمحسوبية والرشوة. فعندما يغوص أصحاب الكفاءات العربية في واقعهم المحلي، بعد العودة من الدراسة في الخارج، يكتشفون غياب الشفافية ولجم الأفواه وامتهان كرامة الفرد، فيحزم كثير منهم الحقائب ويعود من حيث أتى. 
(*) - في الأصل ورقة قُدمت في المؤتمر الخامس والعشرين لمنتدى الفكر المعاصر حول " دور الجامعات والباحثين بين حرية الإبداع وممارسات الرقابة " في الفترة من 19 إلى 21 يونيو/حزيران 2008، بدعوة من " مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات " و " مؤسسة كونراد أديناور بتونس ". 


ليفانت: الدكتور عبد الله تركماني

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!