الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
تصعد الخطاب الشعبوي
مصعب قاسم عزاوي

لا بد من ملاحظة التوازي الزمني بين منحنى صعود الخطاب الشعبوي ومرادفاته من جحافل المتطرفين على المستوى الكوني، ومنحنى تصعد الليبرالية المستحدثة بشكلها البربري المتوحش بدءاً من ثمانينيات القرن المنصرم، والذي لما ينقطع تصاعداً حتى اللحظة الراهنة.

وهو واقع يومي بشكل لا شواش فيه إلى الأسباب المستبطنة التي قادت إلى ذلك التحول، والتي تكمن أساساً في العملية المنظمة التي تصدر رأس حربتها ذلك النموذج الهمجي من الليبرالية المستحدثة لتصحير المجتمع من كل خيارات العمل الجمعي والتنظيم والتفاعل والتآثر المجتمعي، عبر تحويل الإنسان من كائن اجتماعي بامتياز إلى محض عامل منتج لثروات الأقوياء، ومستهلك هلامي لا ضالة له في حياته العابرة على وجه البسيطة سوى استقبال ما يرده من إيماءات وإشارات وتعليمات عبر الإعلام بأشكاله التقليدية، وتلك المستحدثة منها على شاكلة شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وهو التحول المجتمعي البائس الذي تم توطيده ومأسسته في عموم أرجاء المعمورة من خلال العمل المنظم من قِبل الفئات المهيمنة على مصادر الثروة والسلطة والإعلام على المستوى الكوني لقوننة ذلك التصحر الاجتماعي في عدة منعطفات قد يكون أكثرها بروزاً تراجيديا تهشيم النقابات في العالم الغربي في حقبة صعود الليبرالية المستحدثة المشار إليها آنفاً، والتي أفضت إلى حال من التنكس الاجتماعي وخبو عميق في حركية المجتمعات المدنية ومؤسساتها في ذلك الجزء من العالم، وهو ما أفسح المجال لذلك النمط البربري من الليبرالية المستحدثة واستطالاتها الوحشية مفهومياً واقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً لتصدر المشهد على المستوى الكوني بعد أن أُفرغت الساحة من كل إمكانيات مقاومة مفاعيلها المهولة في بؤسها، خاصة بعد أفول قدرات المجتمعات في الدفاع عن نفسها عبر تنظيم عديد المتشاركين في فضاءاتها الجغرافية عبر أدواتها التاريخية ممثلة في النقابات وتنظيمات المجتمع المدني الأخرى.

في الواقع، إن صعود التطرّف بكل أشكاله وتلاوينه الفكرية والعقائدية والسياسية لم يكن بزوغاً لما هو غير محبذ عند الفئات المهيمنة على مفاصل الحل والعقد في المجتمعات، إذ إن التطرّف بأي من تمظهراته، ينطوي على نسق منهجي تبسيطي في مقاربة كل تفاصيل الحياة يجافي العقلانية التي تستدعي التعقل والرشاد والتروي في محاكمة أي من ظواهر الأمور أو بواطنها، وهو ما يمهد الأرض لصعود الشعبويين الذين يتقنون فن قول ما يريده «القطيع الهائج»، وهو ما يختزل الكثير من الجهود التي لا بد للفئات المهيمنة القيام بها للسيطرة على مصادر الثروة والسلطة والإعلام في المجتمع، إذ إن الخطاب المتطرف وما يعبر عنه من نزعات متطرفة، غالباً ما يبتعد كثيراً عن طرح أي أسئلة حقيقية أو مقاربات جذرية لاكتشاف أس عوار وبؤس حياة المواطنين في حياتهم اليومية؛ إذ غالباً من تكون وجهة الخطاب المتطرف الذي يقوده وينطق بلسانه الشعبويون يميناً ويساراً زائغة عن المواضيع الملحة والتي يتوجب إطلاق حوار اجتماعي بصددها من قبيل العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، وأهداف المجتمع الإنتاجية، وحق المواطنين في المشاركة الفعلية باتخاذ القرارات الاجتماعية عموماً، وتلك المتعلقة بمستوى حياتهم وحياة أبنائهم اليومية خصوصاً، وهي الأحياز التي يتم التعامي عنها في فضاء التطرف الفكري وتمظهراته الشعبوية لصالح إشغال المواطنين بالحوار والاختلاف والجدال والسجال الذي قد يصل إلى درجة الاعتراك المباشر حول مواضيع هامشية ليس لها أي علاقة مباشرة بمستوى معاناة وضيق آفاق الحياة اليومية للمواطنين البسطاء، من قبيل حق المرأة الحامل في الإجهاض بغض النظر عن وجود أو عدم وجود أسباب طبية تبرر ذلك، أو حقوق المثليين الجنسيين، أو حق المريض في اتخاذ القرار بإنهاء حياته بنفسه، أو إغلاق أو عدم إغلاق المنافذ الحدودية بوجه المهاجرين الذين هم في الواقع لا يشكلون إلا أعداداً مجهرية بالنسبة لعدد السكان لجل المجتمعات التي يفدون إليها، وغير ذلك من المواضيع التي تحتمل النظر، والحق والباطل فيها نسبي فلسفي في كثير من الأحيان.

والأهم من ذلك عدم اقترابها بأي شكل فعلي من حق المواطنين المظلومين المفقرين بحصة عادلة من الثروة، وقسط منصف من إمكانيات المشاركة في إدارة المجتمع بشكل يمكن أن يفضي عملياً وواقعياً إلى تحسين مستوى معاشهم اليومي وآفاق حياتهم المستقبلية، وهو ما يعني في الواقع العياني المشخص وأد كل إمكانيات تبئير بوصلة وتوجه أولئك الأفراد باتجاه تكشف جوهر معاناتهم وقهرهم وضعفهم، ويبقيهم أسرى تضييع طاقاتهم وقدراتهم العقلية في حلبات اعتراك جانبية تشيح بصرهم وبصيرتهم عن كل ما هو جوهري، وتفسح المجال على أعنته للأقوياء الأثرياء لاستدامة هيمنتهم على مفاصل الثروة والسلطة والإعلام والحل والعقد في المجتمعات التي يتغولون عليها.

ليفانت – مصعب قاسم عزاوي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!