الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
النظام السوري.. وورقة التمترس الطائفي
عبد العزيز مطر

لم تكن سوريا قبل هذه السلطة المستبدّة منذ خمسة عقود إلا بلد التعايش السلمي والتنوع الإثني والعرقي والغنية بإرث حضاري كبير ومتنوع وتاريخ يمتد لآلاف السنين، كانت منارة لحضارات العالم وملهمة لحضارات أخرى، فهي مهد الديانات السماوية، وهي قبلة كل مظلوم في هذا العالم الرحب، وهي الوطن الذي عاش فيه مواطنوه لقرون بدون أي تمييز فيما بينهم.


ولم يزدها هذا التنوّع إلا جمالاً وألقاً، جميع شوارع سوريا ومدنها وأحيائها تسمع فيها جنباً لجنب أصوات المآذن وقرع أجراس الكنائس، ويعيش فيها جنباً لجنب إثنيات عرقية متنوعة، من عرب وكرد وسريان وآشوريين وكلدان وأرمن وتركمان، وغيرها من المكونات السورية الكريمة.


ومع الخصوصية التي يتمتّع بها كل مكون إثني أو عرقي، كان يغلب الطابع الوطني السوري على هذه الخصائص، حتى أتت سلطة الاستبداد منذ عقود خمسة لتستثمر في كل شيء من أجل البقاء، ومن منّا لا يذكر تلك الشعارات الجميلة منذ بداية المأساة السورية (الشعب السوري واحد)، هذا الشعار الذي رفعه شباب سوريا بكل مجاميعها ومكوناتها ليكون ردّاً على نظام الاستبداد والورقة الطائفية التي اتّخذ منها نظام الاستبداد كركيزة هامة لاستمراريته، فعلى مدى سنوات طويلة قدّم النظام السوري نفسه للسوريين والعالم كحامٍ للأقليات الدينية والإثنيات العرقية، ولاسيما الكرد والعلويين، ولكن ممن؟.


لم يشعر السوريون، بكل مكوناتهم، بهذا الخطر الذي يهدّد أمنهم وحياتهم ومستقبلهم، في يوم أو حقبة، كما حدث منذ وصول هذه السلطة المستبدة للحكم في سوريا، عبر عملية انقلابية لا علاقة للشعب السوري فيها، ليكون مع الدولة السورية أكبر ضحاياها هو الشعب.


عقود وحقب طويلة قضتها السلطة الحاكمة المستبدة في سوريا في تحريض السوريين على بعضهم، وإثارة الضغينة بينهم لإضعاف أي شعور وطني، وزرع ثقافة الشك وفوبيا انعدام الثقة فيما بينهم، بالإضافة لتعميم وتعويم فكرة الخوف من الآخر وتحويلها لكابوس، مع عدمية وجود هذا الخوف الذي زرعه النظام السوري بين السوريين.


عدالة الخوف هي المسار والنمط الذي انتهجه النظام ووزّعه بين أبناء الشعب الواحد لصناعة ورقة اسمها الطائفية، وجعل كل سوري يتمترس ضمن مكوّنه الضيق، إن كان طائفياً أو عرقياً، من أجل بقاء هذا النظام والحدّ من أي حركة أو تحرّك يؤثر على بقائه وانفراده بالسلطة، لتتحوّل سوريا لما يشبه مزرعة تدار من قبل عصابة متنوّعة الأعراق والإثنيات، مرتبطة بمكوّن واحد أو مفهوم واحد وهو خدمة السلطة.


عانى السوريون جميعاً من تهديد النظام بسحق كل من يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها أدوات القمع على مدى خمسين عاماً، سواء كان المتجاوز فرداً أو طائفة أو مكوناً، كل هذا أدّى لتقوقع كثير من السوريين، نتيجة الخوف، داخل طوائفهم وكياناتهم التقليدية من أجل البحث عن الأمان والأمن ضمن تلك الكيانات الجمعية التي حاول النظام إيهام السوريين أنّها سبيلهم الوحيد للنجاة، فانتشر التشكيك بين السوريين والخوف من هذا المكون أو ذاك أو هذه العقيده أو تلك، وانتشرت في ظلّ هذا النظام وعبر أجهزته الأمنية ضمن أوساط الأقليات، الخوف من الأغلبية، سواء كانت إثنية أو عرقية، وأنّ وجوده هو الكفيل بحمايتهم، وأنّ البديل عنه هو الأسوء، وهذا كان حجر الزاوية في مواجهة النظام مع أي مطلب شعبي محقّ بالتغيير أو باتجاه التحوّل الديمقراطي.


والحجر الآخر كان تخويف كل السوريين من الأقليات واختلاق الأوهام ونشر الأكاذيب عن هذه الأقليات ضمن أوساط الأغلبية، ليقف الشعب السوري في مواجهة مع نفسه، بالإضافة لممارسة النظام وتلك السلطة لضغوطات متواصلة على الشعب السوري.


والحجر الثالث، في أركان الاستبداد تشكيل حاجز كبير يقف حائلاً دون أي أدنى اهتزاز يؤثر على هذه السلطة، عماده من المنتفعين والمتحالفين مع هذه السلطة، من جميع المكونات وإثنياتها العرقية والدينية.


والحجر الرابع، والمهم، هو ممارسة سياسة ممنهجة تقوم على التفريق بين مكونات الشعب السوري والتوزيع غير العادل لكل شيء من مقدرات هذا البلد، مما يجعل المواطن السوري وكياناته الجمعية يعيشون في دوامة من الشعور بالظلم، وأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية، فحرمت مكونات من الجنسية السورية لعقود، وتغوّل مكوّن على حساب آخر في المؤسسات الوطنية للدولة السورية، كالجيش والأمن، التي من المفترض أن تكون لكل السوريين.


مما لا شك فيه أنّ النظام الحاكم في سوريا، الذي سلب الدولة السورية كل مقوماتها، وسلب الشعب السوري أدنى حقوقه، بالمواطنة والشعور بالانتماء الوطني، وهذه القناعة أصبحت لدى كل السوريين أنّ هذا النظام هو المسؤول عن جميع هذه الممارسات الطائفية، وهي الورقة التي يتمسّك بها ليبقى متماسكاً، مضافاً لهذا مرونته الكبيرة في معاملته مع القوى الدولية الفاعلية وتلبية مطالبها للحفاظ على بقائه على مرّ العقود ولو كان على حساب المصلحة الوطنية للشعب السوري.


هذا كلّه، وعلى مدى عقود، أدّى لنوع من التصحّر السياسي لدى السوريين، وعدم قدرتهم على توحيد جهودهم من أجل بناء مكون وطني، يزيل هذا الكابوس الجاثم على صدور السوريين، ففشلت كل الأشكال التي حاولت كيانات أو مكونات سورية تقديمها كحل لهذه المعضلة وتمترس النظام خلف هذا الحاجز الذي يحميه، ففشلت الأحزاب الدينية التقليدية التي لم تقدّم حلولاً حقيقة لمشكلة الشعب السوري من خلال اعتمادها سياسات إقصائيّة وارتباطها بمشاريع خارجية لا تختلف كثيراً عما يقوم به النظام ويتمترس خلفه، وفشلت الأحزاب القومية الخشبية الجامدة التي تنطلق من أسس لا توافق الواقع السوري وتنوّعه العرقي، وبقيت كل المحاولات الوطنية خجولة ولم تملك الأطر اللازمة لهدم هذا الجدار الذي أقامه النظام على مدى خمسين عاماً.


إنّ الحل الوحيد في سوريا، حالياً، هو تعميق الشعور بالانتماء الوطني والابتعاد عن الرواسب التي كرّسها نظام الاستبداد بين مكونات الشعب السوري، والتفكير بخطاب يجمع كل المكونات السورية على قاعدة الوطن والمواطنة، والتفاهم وبناء الثقة بين السوريين، وترميم النسيج الاجتماعي المفتت، والاعتراف ضمنياً بكل المخاوف والهواجس، والتخلّي عن رواسبها، ومعالجتها بطرق وطنية، وضمن مصلحة الشعب السوري، ونبذ المفاهيم الطائفية التي اجتهدت السلطة المستبدّة في رعايتها لعقود، والعمل على بناء مجال وأفق سياسي يستوعب كل السوريين ويسعى لتحقيق طموحاتهم بدون تداخل مع مصالح أو أجندات دولية أو إقليمية ويعيد تكوينهم من جديد على مستوى الهوية والمواطنة.


هذا ماتحتاجه سوريا للخلاص أكثر من أي وقت مضى، ومن دون ذلك سيبقى السوريون يعانون ويدفعون أثماناً باهظة لصراعات لاعلاقة لهم بها.



عبدالعزيز مطر


ليفانت - عبد العزيز مطر 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!