-
المعجزة اليابانية
قد يستقيم القول بأن مسمى «المعجزة اليابانية» مصطلح يحتاج إعادة النظر به، لعدم صلاحيته معرفياً منظوراً إليه من منظار علمي تاريخي يرى ظواهر التاريخ كتعاقب متسلسل لأسباب ونتائج تتمخض عنها.
وفيما يتعلق باليابان أساساً، فإن هناك عنصراً مهماً ميزها تاريخياً عن كل الدول المجاورة لها في شرق آسيا والتي كانت تمتلك مقومات النهوض الاقتصادي أكثر من أرخبيل، الجزر اليابانية الذي لا موارد طبيعية فيه، وأعني هنا الصين، والهند، وإندونيسيا، كأمثلة على مجتمعات ممتدة على مساحة جغرافية واسعة وبموارد طبيعية وبشرية لا حدود لها. وذلك العنصر التاريخي يتمثل أساساً في أن اليابان هي المجتمع الوحيد الذي لم يتم احتلاله على طريقة الاستعمار البربري الاستيطاني الذي قام به الغزاة الأوربيون من برتغاليين وهولنديين وفرنسيين وإنجليز في شرق آسيا. وذلك العنصر التاريخي هو الفارق الذي يتم تجاهله في الكثير من الأدبيات التي تنظر إلى ظاهرة «التفوق الاقتصادي في اليابان» على أنها ظاهرة معزولة عن جذورها التاريخية، وخاصة فيما يرتبط بأنها المجتمع الوحيد الذي لم يتم احتلاله من قِبل الأوربيين في منطقة شرق القارة الآسيوية.
والعنصر التاريخي الثاني الذي لا بد من استحضاره يتمثل في النهج الذي تم تبنيه في اليابان في منتصف القرن التاسع عشر، وتمثل في اعتماد نهج التحول إلى مجتمع صناعي جوهر عملية إنتاج الثروة فيه يتمثل بتصنيع المواد الأولية، وليس استخراجها من بواطن الأرض تنقيباً أو من سطوحها زرعاً وحصداً فقط، وبالتالي الاستحواذ على كل القيمة الفائضة عن عملية التصنيع، والتي تفوق كثيراً قيمة المواد الأولية الرخيصة، سواء في السوق المحلية أو العالمية. وهو نهج التطوير الصناعي «Industrial Modernisation» الذي تم توطيده في اليابان بدءاً من العام 1853، والذي تضمن إعادة هيكلة شاملة لكل مفاصل وآليات تسيير المجتمع والحكم بشكل وطن محلياً كل مظاهر الحداثة الغربية على المستويات الإنتاجية والإدارية العسكرية، وحتى العلمية والتعليمية بشكل يمنحها صورتها اليابانية الفريدة، بالتوازي مع تبني المزايا التفاضلية التي تراكمت وتنقت تاريخياً في الغرب. وكان آخر الاستجلابات التي رأى اليابانيون ضرورة أخذها من الغرب وتقليدهم فيها هو التحول إلى دولة إمبريالية استعمارية على الطريقة الوحشية البربرية الغربية، وخاصة في ضوء حاجة اليابان إلى الموارد الأولية التي كان لا بد من الاستحصال عليها في سياق تطورها التصنيعي، خاصة وأن اليابان من الناحية الجيولوجية تفتقر إلى جل الموارد الأولية الطبيعية في أرضها البركانية الجبلية.
وأفصحت الإمبريالية اليابانية عن وجهها القبيح في مفاصل متعددة منذ منتصف القرن التاسع عشر مع حكومة «Meiji»، وهو ما ظهر بجلاء منقطع النظير لأول مرة في الحرب مع الصينيين في العام 1894 حول اقتسام النفوذ على كوريا، وهو ما تجلى بانتصار ماحق لليابانيين على الصينيين، تلاه ووطده انتصار اليابانيين على الجيش القيصري الروسي في العام 1904 في الحرب الروسية اليابانية، والتي كانت أيضاً حول النفوذ في شبه الجزيرة الكورية، و التي تمخضت أيضاً عن انتصار ياباني ساحق أفضى إلى قبول اليابان في «نادي الدول الإمبريالية»، والذي كان مقدمة لتوسعها إمبريالياً إبان الحرب العالمية الأولى التي دخلت فيها بفريق «دول الحلفاء» ضد ألمانيا، وكان بنتيجتها مد نفوذها و إحكام سيطرتها على إقليم منشوريا الصيني في العام 1915، والذي كان فعلياً يمثل مركز الهيمنة المطلقة على كل الاقتصاد الصيني، وموارده الطبيعية والبشرية التي لا حدود لها، والتي لم يتقاعس الإمبرياليون اليابانيون عن استغلالها بشكل متوحش، لا يقل عن بربرية أقرانهم الغزاة الأوروبيين في غير موضع من أرجاء الأرضين آنذاك، وهو ما تكلل إبان الحرب العالمية الثانية بسيطرة يابانية شبه مطلقة على كل شرق القارة الآسيوية باستثناء شبه القارة الهندية التي ظلت من حصة المستعمرين البريطانيين.
وأفصح الاستعمار الياباني البربري الوحشي المنفلت من كل عقال أخلاقي عن كينونته القبيحة خلال تلك الحقبة الأخيرة، ابتداء من العام 1932 إلى العام ،1945 بما يعرف اصطلاحاً بـ «نساء الراحة»، وباللغة الإنجليزية «Comfort Women»، وهن بضع مئات آلاف من النساء الكوريات اللاتي قام اليابانيون بتحويلهن إلى «رقيق أصفر»، و جوارٍ مستعبدات مخصصات للاستغلال الجنسي من قِبل أي من يرغب بذلك من أفراد الجيش الإمبريالي الياباني.
وتلك الثروات المهولة التي قام اليابانيون بنهبها من مجتمعات المستعمرات التي هيمنوا عليها في شرق القارة الآسيوية مكنتهم من تطوير أرضية تصنيعية متقدمة، ومن مراكمة العنصر الأكثر أهمية في عملية تطور اليابان اللاحق، وأعني هنا الخبرات البشرية والمعارف الضرورية لأجل تحقيق تطور تصنيعي لافت للنظر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أُرْغِمَ اليابانيون على الاستسلام فيها بقوة السلاح النووي فقط في شهر أغسطس من العام 1945، وهم الذين ظلوا يحاربون دول الحلفاء لشهور طويلة بعد سقوط النظام النازي في ألمانيا، وخسارته للحرب العالمية الثانية في شهر أبريل من العام 1945.
وعملياً مثلت الثروات التراكمية والخبرات البشرية ميزتين تفاضليتين فريدتين تحلت بهما اليابان جراء عدم استعمارها من قِبل الأوربيين، و هما اللتان تكاملتا مع سعي اليابان في نهج تقليدها للأوربيين في تحويل اقتصاداتها من زراعية منتجة للمواد الأولية إلى صناعية منتجة لطوفانات من القيمة الفائضة، في نموذج اقتصادي مجتمعي فريد ينطوي على صفات تكوينية و وظيفية محورية ما زال يفتقدها كل ما يدعى بدول العالم الثالث، ويمثل افتقادها العنصر الجوهري في استدامة هشاشتها وضعفها الاقتصادي وتعثر كل محاولاتها للخروج من مفاعيل ذلك العوار الذي يعود في جزء كبير منه إلى مفاعيل الاستعمار الاستيطاني تاريخياً على مجتمعاتها، والذي حرمها من إدراك تلك العناصر الجوهرية التي لا بد منها لتحقيق أي عملية نهوض اقتصادي ملموس في أي مجتمع على وجه البسيطة.
وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا بد من الإشارة إلى الحقيقة الاستثنائية في أهميتها والمتمثلة في تبني اليابان لنموذج من التنمية الاقتصادية يستند أساساً على الميزتين التفاضليتين السابقتين، بالتوازي مع عنصر حافظ لنتائج هاتين الميزتين تمثل في تبني نظام اقتصادي قائم على مبدأ «التخطيط الوطني المركزي»، وليس نهج «اقتصاد السوق» الذي لا دور فيه للدولة، وإنما فقط لقوانين العرض والطلب من الناحية النظرية، إذ قام نهج التخطيط الوطني المركزي برسم مجهري مدقق في كل تفاصيل الكيفية التي يتوجب توجيه الاقتصاد في وجهتها عبر تحديد الأحياز التي لا بد من استثمار الثروات المالية التي راكمها اليابانيون جراء نهبهم المنظم لمستعمراتهم السالفة، واستخدام الخبرات البشرية التي راكموها في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وخاصة في الحقل التصنيعي، عبر وضع خطط اقتصادية شاملة أساسها الاستثمار في حقول تصنيعية متقدمة تدر قيمة فائضة مرتفعة جراء بيعها في السوق المحلية والعالمية، بالتوازي مع إجراء استثنائي في أهميته تمثل في «حظر تهريب رؤوس الأموال» الناجمة عن أي تبادل تجاري مع السوق العالمية، والذي كان يعني تجريم قيام أي شخص أو مؤسسة بتهريب واردها من العملة الصعبة جراء التبادل التجاري مع دول أخرى خارج اليابان تحت طائلة عقوبات شديدة قد تصل إلى الإعدام، وهو ما أسهم في تعزيز الثروة الكامنة في المجتمع، والتي لم تكن لتجد منفذاً لاستثمارها سوى في الأحياز التي تتسق مع نهج التخطيط المركزي، السالف الذكر، وهو ما أسهم في نهاية المطاف في تشكيل عملاق اقتصادي وطني دعاماته الأساسية الأربعة: الثروات التاريخية المتراكمة جراء نهب دول المستعمرات، والخبرات البشرية التراكمية، ونموذج التخطيط الاقتصادي المركزي، وحظر تهريب رؤوس الأموال.
وجدير بالذكر أن حرية تبادل رؤوس الأموال في اليابان لم يتم السماح بها إلا مؤخراً منذ خواتيم ثمانينيات القرن العشرين بعد أن أصبحت معدلات الثروة فائضة في داخل الاقتصاد الياباني إلى درجة فائقة، بالتوازي مع قدرات تصنيعية نوعية يصعب على جل دول العالم اللحاق بها، وهو ما سوف يضمن تدفق القيمة الفائضة إلى المجتمع الياباني في قابل الأيام، حتى لو خرجت منه نظرياً لبعض الوقت ودارت في اقتصادات أخرى خارجه ليعود إليه خراجها بشكل أو بآخر في المآل الأخير.
ليفانت - مصعب قاسم عزاوي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!