-
المصالح المتبادلة يجب ألا تُعمي العيون عن الحقائق.. في راوية أغنية هادئة
رغم أنّ “أغنية هادئة” هي الأغنية التي تهدهد بها المربيات لمساعدة الطفل على نوم هادئ وعميق، إلا أنّ نتائجَ هذه الأغنية لم تكن هادئة أبداً.
الرواية التي بين أيدينا مُجرَيات أحداثها غير المرغوب بها، تبدأ بعد توقيع الاتفاق بين الطرفين، المربية والأهل. وما إن تبدأ المربية بتنفيذ مهامها في البيت، يغلّف التعامل بين الطرفين اتفاقاً غير معلن يتحكم فيه التجاهل والتغافل، لنجد أنّنا ندور في حلقة مفرغة محورها ثلاثة أقطاب: القطب الأول: الوالدان وحاجتهم الماسّة لخدمات المربية، والقطب الثاني: حب الطفلين للمربية وتعلقهم بها، والقطب الثالث: المربية ذاتها، والتي هي بحاجة للدخل الذي تتقاضاه، فتحاول إبهار من حولها بأدائها، بينما تعمل جاهدة على إخفاء الغموض وعدم الاستقرار النفسي الذي يكتنفها. بين هذا وذاك تدقّ الكاتبة ناقوس الخطر، فالمصالح المتبادلة يجب ألا تُعمي العيون عن الحقائق.
حياة مختلفة:
تدورُ أحداث الرواية في باريس، في شقة آل ماسي، الزوجان، بول ومريم، وطفلاهما، ميلا وآدم. مريم محامية تترك ممارسة المهنة بداعي التفرّغ لتربية طفليها، لكنّ الطموحَ وعرضَ عمل من أحد زملائها يجعلها تتخلّى عن الفكرة، فتَعزمُ على العودةِ للعمل مجدداً، وبالاتفاق مع الزوج تقرّر إحضار مربية تناسبت مواصفاتها والمعايير التي وضعت لاختيارها على المهاجرة لويز.
سرعان ما تتحكّم المربية الجديدة بالبيت والأطفال، فتأخذ على عاتقها مسؤولية أداء كلّ المهام ،من تنظيف البيت وإعداد الطعام ومرافقة الأطفال للمدرسة والتنزّه بالحديقة واللعب معهما، لتعتبر مريم بأنّ لويز “إمرأة خارقة”، ويوافقها بول والأصدقاء هذه الفكرة، ما عدا أم بول كان لها تحفظات -لم تلقَ آذاناً صاغية- على تصرّفات لويز، وتلوم مريم اعتمادها الكامل عليها في إدارة شؤون الأسرة.
من جانب آخر، تعيش لويز حياة دون المستوى، نطوف إلى بيتها القذر والدرجة السفلى التي تحياها، ومن ضمنها معاناتها من مشاكل مادية، مما يدفعها لارتكاب مخالفات قانونية كالتهرّب من التسجيلات الرسميّة لدخلها وعنوان إقامتها.
هواجس مريضة
تؤثر كثيراً مجريات الأمور السلبية على حياتها، حيث تتخلّى لويز عن ابنتها لتقوم بتربية أبناء غيرها، مما يسبب حقداً طبقياً، في المقارنة بالعيش مع أسرة من الطبقة الراقية في الشقة الجميلة النظيفة، فيما تحرّضها أفكارها المريضة إلى الخوف من أن تخسر وظيفتها، فتبدأ الهواجس تنهش رأسها، ولكي لا تتخلّى مريم عنها -عندما يكبر الطفلان- تصل إلى فكرة بأنّ ما سيبقيها على رأس عملها هو ميلاد طفلٍ ثالث لهذه العائلة.
ولتنفيذ ذلك، تهيء الأجواء وتترك الزوجين في الشقة وحدهما، فتدعو الطفلين لتناول العشاء في مطعم، فترضخ مريم أمام توسلات الابنة ميلا، فتصطحب لويز الطفلين إلى أماكن مريبة وقذرة وممرات مخيفة، في أزقة معتمة تفضي إلى ساحات يدخن فيها شباب الحشيش، مستندين إلى صناديق قمامة. وهكذا، تفقد الطفلة ميلا كل المعالم، ولم تعد تدري أهي في المدينة ذاتها أم لا، وما إذا كانت ستعود إلى بيتها، وما إذا كان والداها يعرفان أين تتواجد؟ بينما توبخها لويز لكثرة أسئلتها.، فتخاف ميلا أكثر وتسألها “أين نحن؟”.
مع مرور الوقت، تتغير لويز مع الطفلين وتبدأ نبرتها مختلفة ويزيد حقدها وغيرتها من أفراد العائلة البرجوازية، لتصبح وظيفتها متعبة مثل حياة المربيات التي عادة ما تكون رتيبة ومملة. وبناءً عليه تفضل عدم السفر مع العائلة خلال العطلة والبقاء لوحدها في البيت بحجة أنها تريد أن ترتاح، ولم يكن أحد يعلم حقيقة ما تريد.
هيكتور روميني
من جهة أخرى، ينقلنا السرد بهدوء إلى ممارسات لويز مع طفل ليس من هذه العائلة، يدعى هيكتور روميني، حيث تأسر الطفل رائحة لويز المعبقة بماء الورد والكريمات، وبحجة أنّها مربيته تتجاوز حدودها وهي تدغدغ جسده الصغير، ليتعلق بها تعلقاً شديداً. ثم فجأة تترك البيت ليصاب هيكتور بفراغ عاطفي كبير، حيث جعل انصرافها تمزقاً في حياته “اشتاق إليها شوقاً شديداً” فحقد على المربية لويز، لأنّها تخلّت عنه على عكس ما وعدته. وبهذه النقلة الذكية التي تناولتها الكاتبة حول قضية هيكتور ما هو إلا دعوة للأهل لمراقبة ما قد يتعرّض له الطفل من استغلال جسدي دون علمهم، الذي يؤدي الى صمت الطفل بداعي الخوف، بدليل الاستشهاد بعبارة: “فيخاف هيكتور السؤال عن سبب غيابها المفاجىء دون عذر”.
الطفلان أصابهما مكروه
نعود لحيثيات الحادث البشع، إذ أرسلت النقيبة نينا دورفال ضابط الشرطة فيردي إلى محطة الشمال لكي يأتي ببول الذي كان مسافراً. وقالت في نفسها، إنّه سيعرف كيف يتلطّف إخباره بالحادث وعن الجريمة التي أودت بحياة طفليه.
وقد وصل الضابط إلى المحطة، وراح يراقب وصول القطارات، ثم وصل القطار القادم من لندن، أشهر الشرطي بطاقته، وطلب من بول أن يتبعه.. ظنّ بول في البداية أنّ الأمر يتعلّق بخطأ.
لم يدخلنا النصّ بتفاصيل تنفيذ الجريمة سوى أنّ لويز تأخذ سكيناً من خزانة المطبخ، سكينٌ صغيرٌ بحيث استطاعت إخفاءه في راحتها.. تفتح الصنبور، تترك يدها تحت الماء المتدفق لتجس حرارته، ثم تعبىء الحمام بالماء، وتقول: “هيّا يا أطفال للاستحمام”.
الأحداث تمرّ بطريقة متسارعة: الاتكاليّة والثقة المطلقة من قبل الزوجين لا لشيء، إلا لأنّ لويز قدّمت لهما الراحة الكافية باعتنائها بالبيت والطفلين، بينما هما يلهثان وراء النجاح في العمل وجني الأموال، كل هذا يدفعهم لعدم التركيز على سلبيات لويز وممارساتها الغريبة، فجعلهما يغضّان النظر وعدم تضخيم هذه العيوب.
شريط الذكريات واللوم يكتنفان مريم وبول فهناك الكثير يجهلانه عن حياتها، ماذا كانت تفعل لويز حين تغيب عنهم؟ أين كانت تذهب؟ ليبدو جلياً تقصيرهم كأرباب منزل بعدم التقصّي عنها وعن حياتها بالشكل المطلوب، وبالتالي لم يعرفا بأنّها كانت نزيلة مصحة للعلاج من اضطرابات نفسية أدّت لعدّة محاولات انتحار فاشلة.
تنتهي الرواية بجريمة قتل ترتكبها لويز بحق الطفلين، حيث بدأت: صوت صفارات الشرطة وسيارة الإسعاف، تحمل النقالة الطفلين عند مدخل العمارة، كل الجيران وأبناء الحي ينظرون إلى سيارة الإسعاف مرددين وسط ذهول: “الطفلان أصابهما مكروه”، أما المتهمة لويز، فبقيت في الشقة مغمى عليها، كانت تمسك في يدها سكيناً صغيراً بمقبض من الفخار الأبيض، لويز التي لم تنجح في قتل نفسها، لكنّها نجحت في قتل الطفلين.
لتتأكد الإشاعة: “المربية قتلت الطفلين”
مريم حين دخلت إلى الغرفة التي كان يرقد فيها طفلاها بلا حراك، ندّت عنها صرخة آتية من الأعماق، أشبه بعواء ذئبة، فحقنتها طبيبة الإغاثة بعقار مهدَّى. مريم التي كانت قبل ساعات تنوي إخراج الطفلين ليلعبا في الأرجوحة، ثم تأخذهما معها لشراء ما يلزم للعشاء.. لكن آدم مات، وميلا تلفظ أنفاسها الأخيرة.
جائزة الغونكور:
صدرت “أغنية هادئة” بالفرنسية عام 2016 للكاتبة (الفرنكفونية) الفرنسية من أصول مغربية ليلى سليماني، حازت الرواية على جائزة الغونكور، وهي أرقى وأعرق جائزة أدبية في فرنسا، وأصبحت بهذا التتويج ثالث وجه أدبي عربي يتوّج بهذه الجائزة بعد الطاهر بن جلون وأمين معلوف.. ترجمها للعربية المغربي محمد التهامي العماري.
ليفانت – رقية العلمي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!