الوضع المظلم
الجمعة ١٠ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • المخرج والفنان التشكيلي حازم الحموي: ما زلت ذلك الصبي الغارق في البركة حتى بعد خروجي من دمشق

المخرج والفنان التشكيلي حازم الحموي: ما زلت ذلك الصبي الغارق في البركة حتى بعد خروجي من دمشق
ميرنا الرشيد

تتسم الطبيعة الإنسانية بالعنف والخوف والغضب، كيف ذلك؟ لقد قبل الإنسان بهذه المقولة على أنها نص إلهي، لم يتأمل فيها، ولم يحللها، ولم يتفحص مداها وارتدادها، فعجز العقل الذي ارتضى الخمول والمحقون بكارما المجتمع عن الانصهار مع ذاته حتى الاحتراق من أجل الوصول إلى ما هو لانهائي.

الماهو هو أعلى مستوى في الوعي الإنساني، إنه الإلهي، والإلهي هو الحب العابر للزمان والمكان، غير المحدد بماهية دينية أو فكرية أو نفسية، إنه الحب النقي من خبث الأنا وحركة الفكر، الأنا أصل البلاء، والفكر مولودها الموصول بها بحبر سري غير منقطع.

متى تذوب؟ عندما نتحد بها اتحاداً لا تَعبر فيه فكرة تنبش في الماضي أو تفتح للعقل مهرباً إلى مستقبل متخيل، تذوب عندما لا يتولد شعور يشعرنا أننا ضحايا فقط وأن الآخر هو الظالم، في ومضة الصفاء تلك تُبعَد كل القشور الخارجية المزيفة فيتجلى الجوهر الذي كفر العقل بوجوده، جوهر لا حزن فيه ولا ألم، لا أذى ولا عنف ولا غضب، لا بكاء على ما فات ولا خوف مما هو قادم، إنه جوهر إنسان يستغرق تجليه أطوار حياة غير محددة، فيولد ويموت ضمن مفهوم السامسارا حتى يأتي طور يكون فيه ولا يكون، يوجد ولا يوجد، يساوي الكون في كل شيء، إنه الكون بذاته.

* أن تُخلق في دمشق أواخر السبعينيات لأسرة متوسطة تقليدية، وأن ترتدي المريول البني في المدرسة الإبتدائية والزي العسكري في الإعدادية والثانوية، يعني أن حكايتك تشبه حكاية كثير من السوريين والسوريات الذين اختبروا قساوة التربية ورتابة الحياة وازدواجية المجتمع، حدثنا عنك.

وُلدت فعلياً قبل نهاية عام 1979 بثلاثة أيام في المستشفى الفرنسي، وكحال غالبية مواليد سوريا الذين يولدون آخر السنة، سُجلت في الأول من الشهر الأول عام 1980. كنت منذ صغري محاطاً بالكتب والمجلات والصحف بسبب عمل والدي في الصحافة والأدب، فألفت عيني الكاريكاتير، وبدأت أرسم موضوعات كثيرة في السابعة من عمري، وكان وسيلتي لحفظ توازني الداخلي لأسباب منها ما يتعلق بإصابة عينيّ بالكاتاراكت أو الماء الأبيض، فكنت ضعيف البصر وحساساً للضوء لا أرى منه إلا ضباباً، وواجهت صعوبة حقيقية في القراءة والكتابة في السنوات العشر الأولى من المدرسة.

 

تراوحت الأجواء في البيت بين مزيج من الثقافة ومخزون ذكوري حمله والداي من الماضي وحاولا جهدهما إبعاده عنا، لكن الحالة العامة من العنف التربوي التي كانت سائدة في المجتمع عرقلت مساعيهما، فأحياناً كنت أجهل سبب مكافأتي أو معاقبتي، وأعتقد أنه أمر خاطئ تربوياً أن يكون الطفل خاضعاً للتمزق والتوتر، فتهتز ثقته بالمحيط ويتولد الخوف داخل عقله، وما زلت إلى الآن أحاول فهم ذلك السياق المؤدلج الذي انعكس على الحاضر، وقد خضت رحلة طويلة عند الطبيب النفسي من أجل معرفة ذاتي، والفن خفف عني كثيراً من هذه الحمولة.

كان والدي من الأشخاص الذين تركوا مسقط رأسهم في السلمية في الستينيات، وجاؤوا إلى دمشق لتحقيق طموح مهني، شهدنا في بيتنا صراعات عمله في اتحاد الكتاب العرب عندما كان علي عقلة عرسان رئيساً له، وتفتحنا في سنوات مبكرة على مشهد مصغر من تناقضات المجتمع السوري الذي ينقل المشكلات الخارجية إلى داخل البيت، وما كان يحدث في بيئة العمل الإدارية، وذهنية المدير المتسلط ذي الرأي الأوحد.

أنجزت معارض فنية منذ أيام الشبيبة المدرسية، وكنت موهوباً في تقليد أساتذة الصف، وأكتب نصوصاً مقسمة إلى مشاهد أؤديها مع رفاقي بأصوات الأساتذة، لقد ساعدتني هذه المواهب المتعددة على كسر جفاف وقسوة الجو التعليمي الذي عايشناه من ضرب بالعصي وتعنيف بالألفاظ وتهديد دائم في البيت والمدرسة، كان الوقت الذي نمضيه على الطريق هو الذي يخفف عنا ثقل التربية الصارمة.

تقدمت إلى كلية الفنون الجميلة عام 1998، واستمرت معاناتي البصرية، فلم أكن أميز بين التماثيل التي كنا نرسمها، طورت طريقتي في رسم الكاريكاتير، وتخصصت في التصوير الزيتي، وبدأت أنشر في الصحف العربية والمحلية بالإضافة إلى مشاركتي في المعارض، عندما اقتربت من عام التخرج، شعرت بعلاقة تربطني بالمسرح، فتقدمت إلى المعهد العالي بعد فترة من التحضير عام 2001، وأحرزت المرتبة الأولى في امتحانَي القبول الكتابي والشفهي، ودرست في قسم الدراسات المسرحية، وفي هذا العام أيضاً أجريت عملية لعيني اليمنى وكسبت فيها نظراً طبيعياً، كما عملت في السينوغرافيا فترة من الوقت، وكنت أطمح إلى التخصص فيها، لكن مشاحنات الوسط الفني وشلليته جعلتني أنفر منه، إنني أهوى الفن لكنني لا أرتاح لأجوائه.

أنجزت أول أفلامي التسجيلية خلال فترة الدراسة، وكان بعنوان "جولة في شوارع دمشق"، وقد حمل ملامح السينما المستقلة التي كان من الممكن أن تتكثف، وكنت من أكثر الطلاب الذي سافروا إلى أوروبا خلال سنوات المعهد لعرض أفلامي القصيرة على الرغم من بساطة التمويل، وتعرفت أيضاً إلى محترف الفيلم التسجيلي عام 2005، وهو معهد داخلي أسسه في عمان المخرج الراحل عمر أميرلاي والمخرج العراقي قيس الزبيدي وسينمائيون آخرون، فانتسبت إليه مع زميل آخر، وأنجزت فيلم التخرج "عصفور من حجر"، وقد عُرض في كثير من المهرجانات.

 

في عام 2010، حصلت على جائزة دبي الثقافية الأولى عن فيلم "أنين"، ومكنتني الجائزة المالية من افتتاح شركة فنية لصناعة الأفلام في حي الصالحية عام 2012 على الرغم من ظروف الحرب والأحداث الصعبة التي كنا نمر بها، وبدأت مع مجموعة من أصدقاء المهنة بناء صيغة عمل أكثر احترافية، وبعد مضي عام أجريت دورة تدريبية مع "اليورو دوك" في الإخراج والإنتاج، وتقدمت بفكرة فيلمي الأول الطويل، وسافرت إلى فرنسا لإنجاز المونتاج، ومن هناك انتقلت إلى ألمانيا للاستقرار، ولم أعد إلى بلدي حتى الآن.

* عندما كنتَ في الصف الخامس الابتدائي، ألصقت المعلمة فمك بلاصق مدة ساعة وضربتك بعنف شديد لأنك لم تكتب الواجب بالشكل الذي طلبته منك، فخبأتَ رأسك بين يديك، وانحنيت فوق المقعد وبكيت حتى شكلت بركة من دموعك، ما الذي بقي من ذلك الصبي المعنف، وهل ما زلت غارقاً في البركة؟

صدمني هذا السؤال حقيقة، وإجابتي هي أن الصبي ما يزال على ما هو عليه، والتغيير الذي حققته في داخلي طفيف جداً. كل ما استطعت أن أفعله أنني تخلصت من جزء من اللاصق الذي أُلصق على فمي، فالتعبير عن الذات عملية صعبة لدي، إنه جهاد فعلي، لذلك أقول إن الفن ساعدني على إخراج ما بداخلي، لا أدّعي هنا أنني أقدم دائماً فناً جيداً لكني أصر أن أنجز منتجاً صادقاً.

في لوحاتي القديمة كنتُ أُكثر من اللونين الأبيض والأسود تعبيراً عن القسوة والحزن اللذين كنت أشعر بهما، وبرأيي إن لم يكن الفن مثقلاً بالصدق يفقد قيمته، ولهذا أعاني من صعوبة في التعبير ليس بسبب الرقابة الخارجية فقط بل الذاتية أيضاً التي قد تعيق الوصول إلى لحظة الصدق، وبناءً على هذا ما يزال نصف فم الصبي ملصقاً، وهو يجاهد إلى الآن لفكه كلياً.

إنني إنسان لا يؤمن بالعنف حلاً لأي أزمة أو مشكلة، وبما أنني أعيش في ألمانيا، بدأت ألحظ أن الأوروبيين يتجهون نحو الانخراط في سيكولوجيا الحرب والانقسام بين طرفي النزاع الروسي أو الأوكراني، يبدو أن الطبيعة البشرية تتسم بصفات معينة، لكني أعتقد أنه يمكننا أن نهدأ وننخرط في صراع فكري وليس جسدياً.

ما زلت ذلك الصبي الغارق في البركة حتى بعد خروجي من دمشق، فالضغوط التي تحيط بنا مركبة من وجهين، فيها حمولة مغروسة فينا، وأخرى نواجهها في الغربة، فنضطر أن نعيش في عالمين، ونختبر التردد في التعبير عن الذات والمشاعر خوفاً من الوقوع في أي مشكلة، وهذه متاعب جدية، بالإضافة إلى ضغط تحقيق الذات، إنني أحاول الخروج من البركة، وأقنع نفسي أن معنى  الحياة هو في المحاولة وليس في النتيجة، ما يحزنني أنه خلال المدة الزمنية المقدر لنا أن نعيشها ثمة أحلام كثيرة لن نراها محققة، ربما لن نستطيع أن نطوي جراح الماضي ونحضن بعضنا بعضاً، والتصالح مع هذه الحقيقة ليس سهلاً.

* ربما يصح القول إننا في سوريا جُبلنا بالخوف والغضب، وقد جاهرنا بالشعور الأول، وخبأنا الثاني، حتى إن تغريدة عصفور تخيفنا وتجعلنا نتساءل: لماذا يغرد؟ وفي أحيان أخرى تُغضبنا، فنحن قد اعتدنا اللاصوت، هل هجرت الخوف والغضب في ألمانيا؟ وهل تعتقد أن ثمة حياة من دونهما؟

لم أهجر الخوف أبداً، لكنني استطعت أن أهجر الغضب، والمفارقة أن منسوب الخوف ازداد في داخلي، ففي المجتمعات الأوروبية نكتسب نمطاً آخر منه بسبب الرأسمالية، لقد أدركنا هنا معنى النظام المالي الأصيل وليس تلك النسخة المقلدة التي عرفناها في سوريا، هنا نشعر بالخطر وأن الأوراق التي تصلنا بالبريد الصباحي تحمل تهديداً، ولابد من تفقدها، فربما فيها إنذار بالإخلاء أو مخالفة لنسيان دفع فاتورة ما، الحياة في أوروبا ليست وردية كما تصورها بعض الأطراف لغايات كيدية، فالعنف حاضر وإن لم يكن بالصورة التي عهدناها علماً أن مساحة الديمقراطية والحرية حاضرة والمواطنة مصانة ولها اعتبارها.

في المجتمع الغربي، تكشف الرأسمالية عن مخالبها بعنف ووضوح، فنحن محاصرون بعقود شركات الكهرباء والإنترنت والتلفاز والمطابخ، كما أنه ثمة خوف من محاولات تخليص المهاجرين واللاجئين من جذورهم، فالحديث بلغاتنا الأصلية مثلاً قد يثير غضب واستياء المتعصبين والمتطرفين بحجة عدم اندماجنا.

السوريون في أوروبا يشعرون بضغوط مضاعفة لأنهم محملون بالأعباء النفسية التي أتوا بها، يضاف إليها أعباء التأقلم، وضبط إيقاعهم مع الإيقاع الجديد، لكن مما يُحسب لهم في الغرب أنهم متحررون من مخاوف الجسد، والعلاقة بين الرجل والمرأة لا يُضطهد فيها طرف ويعلو فيها آخر كما هو حال غالبية دول الشرق، فسبّب هذا النمط الجديد من العقد الاجتماعي صدمة ثقافية عند السوريين، فانكمش بعضهم عن التفاعل مع المجتمع، بينما تخلص آخرون من كل جذورهم القديمة، وذابوا فيه إلى الأقصى.

* أصبحت عبارة "سوريو الداخل والخارج" رائجة في الأحاديث والنصوص كأن من ينطقها يشير إلى أناس من بلدين مختلفين، أليس الداخل السيكولوجي واحد والإنسان بطبيعته يحمل وعياً كونياً لا يحده زمان ولا مكان؟

إنني أشعر بألم الطرفين، وأرفض التمييز بيننا بهذه الطريقة، فالظروف التي تحكمنا مختلفة، وعدا عن ذلك نحن تجرعنا من الكأس نفسها، وما حدث قد حدث، علينا الآن أن نقترب من بعضنا بعضاً كي لا نخذل الأجيال القادمة. ليس من المعيب الاختلاف بالأفكار لكن التشفي الإنساني هو الفعل اللأخلاقي، هنالك من يفضل صناعة قطيع مريح وآمن يستقطب إليه نسخاً متشابهة لكنني لا أتفق مع هذا التوجه، فبالنسبة إليّ تكفيني صومعة الحب والفن ولحظات الدفء التي أعيشها مع زوجتي والألوان وغرفة الأفلام، لقد منحتني الحياة مساحة مكنتني من الابتعاد عن الانقسامات والاستقطاب، ومن يتصف بالانتهازية والاستغلال يمكن أن يوجد في أي مكان، والأمر ينطبق أيضاً على من يتحلى بالصدق والنقاء، إن ما نشهده هو سيكولوجيا الحرب وهي لا تحتمل سوى التفرقة بين هذا وهذاك.  

* لوحاتك مليئة بحارات الشام القديمة، هل ما زلت تعيش في الماضي؟ ما الذي يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع باسمها؟

لا يمكن لأحد أن يحب الشام من دون المدينة القديمة، لقد استغرقت علاقتي بها وقتاً حتى استطعت تكوينها، والآن أكرر الأمر نفسه مع برلين، هذا البطء الذي أتخذه نمطاً في حياتي كان لسلحفاتي التي تركتها في ريف طرطوس قبل أن أغادر دوراً في تشكيله. ما أود قوله إن دمشق مدينة معنّفة مثلي، وهي لا تحتمل كل الأسمنت الذي وضع فيها لبناء أبنية ضخمة حديثة لا تتناسب مع نعومتها، لقد قسونا عليها، وجعلناها تدفع ثمناً اجتماعياً بسبب إهمال ريفها وبقية المدن السورية، والمدينة مثل البشر عندما تصاب بالإنهاك تنقطع أنفاسها وتبهت ألوانها ويترهل مظهرها.


 

الشام القديمة تسحر كل من يزورها، ولا يمكن أن نذكرها إلا بحب وحميمية، وهذا ما أسمعه من أصدقائي الألمان الذين زاروا سوريا في السابق، لذلك يؤلمني حالها الرث، وهي كالأم الحزينة المجروحة من ولدين عاقين لا يحترمانها ويقدرنا قيمتها حق تقدير، لقد خذلناها، هذا ما يتبادر إلى ذهني عندما يُذكر اسمها، كان بالإمكان أن نكون أكثر مرونة وأقل قسوة مع أنفسنا ومع بلدنا وفيما بيننا، لكن للأسف لم نكن أهلاً لهذا الحِمل.

بطريقة ما، ما زلت أعيش في الماضي لكنني أغربله وأصفي منه الشوائب ولا أتعامل معه على أنه كتلة واحدة، فالماضي الذي عشته كان فيه الخوف والعنف، وهذا ما يجعلني أفصل هذه الشوائب وأعالجها وأعطيها حجمها الحقيقي ولا أتركها عالقة في أعماقي، وثمة ماض خاص بذكرياتي الجميلة في بلدي وبالناس الذين عرفتهم، منهم بندر عبد الحميد وأبو حالوب العراقي وأبو شاكر صاحب محل العصير وأبو شادي حكواتي النوفرة، المدينة هي حالة تراكمية من كل المشاعر الإنسانية المختلطة، ولابد أن نصون الماضي الصحي فيها بتدخل من الوعي كي نستطيع أن نبعد الألم عن الجمال، ونضع كل منهما في مكانه، ويمكن بالفن أيضاً أن نتبنى هذه المسؤولية بمنطق لاعنفي، فنحصل على مدينة فيها سلام وأمان وإنسان  يتأمل ويفكر ويحلل، غير مذعور ومضطرب.

* ماذا عن الموت؟ هل يؤلمك أن تغادر جسدك بعيداً عن مدينتك؟

ربما في غمرة الانشغالات ننشغل عن التفكير بالموت لكن مع التقدم بالعمر يبدأ الحيز العقلي المخصص له بالتوسع، وبالطبع أتمنى أن أدفن في السلمية بالتحديد، إلا أن الإجراءات المعقدة التي تصعّب نقل الجثامين تشعرنا بالقهر وتبعدنا عن التفكير بهذا العبء النفسي، كما أن مقدار الموت الذي شهدناه في بلدنا، وأن كثيراً من الناس لم يحظوا بدفن لائق، يحيلني إلى التفكير أنني لست أهم من الآخرين.

ما يؤلمني أكثر هو حال الناس الذين يُحرمون من وداع أهاليهم، ويخيفني أن أعيش الموقف نفسه أيضاً، فوالدي ووالدتي لم يغادرا سوريا، لقد كشفت الحياة أمامنا عن قسوتها وكشّرت عن أنيابها، وهذا ما يجعلنا نتحايل على أنفسنا لتخفيف الألم وتخدير الجروح، قناعتي وهاجسي عن الموت لا تتعلق في أي مكان سأدفن، إنه مجرد تفصيل في مشوار الحياة، والأهم هو مغزى العيش الذي نفقد بوصلته، فمن الممكن أن أموت بعد هذا الحوار مثلاً، لا يمكن لأحد أن يعرف الوقت، ما يهمني أن أجد مغزى لحياتي وحضوري فيها، فبوصلتي قد اهتزت وأضعت الوجهة مثل كثيرين غيري ممن استقروا في أوروبا.

* ما الذي تعمل عليه الآن في الفن التشكيلي والسينما؟  

إنني شخص منكب على العمل في كل الأوقات لكن بطبع سلحفاتي ومن دون أن أُظهر ما أعمل، ولا يهمني أن أعرض دائماً ما أنتجه، فلكل آن أوانه، وفي أحيان قليلة أخرج من عزلتي وجحري وأشارك نتاجي مع الناس، بيتي الصغير في برلين أشبه بورشة عمل، تحاصرني اللوحات وعدة التصوير والمونتاج، وبالكاد أخرج منها إلى الفضاء العام، هذا النمط الذي أفضله.

 

في الوقت الحالي، أعمل لإنجاز معرض في كوبنهاغن بداية العام المقبل بعنوان أولي "فقدان"، ومن المحتمل أن أرسم فيه مناظر من المدينة بتوظيف مستوى النظر غير المتساوي لدي، فأنا أرى بشكل طبيعي بالعين اليمنى، والرؤية تقريباً معدومة بالعين اليسرى في ضوء النهار، لذلك سأرسم في جلستين أربع لوحات، أي بمعدل ثنائية في كل جلسة، أنفذ فيها لقطة واحدة بعينين مختلفتين لونياً.

في السينما، تكون عجلة العمل فيها أبطأ من الفن التشكيلي لأنها تحتاج إلى فريق، ومن الصعب تحريكها بجهد إفرادي، كما أن اختراق هذه الصناعة في ألمانيا ليس سهلاً ويتطلب وقتاً، وبطبعي أميل إلى ما يُسمى بسينما الغرفة، وهذا ما يجعلني أجد حلاً للمشكلات الفنية داخل غرفتي وهو أمر مرتبط بالأنيمشن.

بالنسبة إلى المنتج السينمائي، أعمل منذ وقت طويل لإنجاز فيلم تسجيلي عن الخطاط منير الشعراني، وأحاول أن أصل معه إلى صيغة سردية ومعالجة فنية تقدم حياته الكفاحية ومشواره الإبداعي الذي حرر فيه الخط العربي من التقديس، وأعمل منذ خمس سنوات على فيلم تجريبي طويل يتضمن الأنيمشن، يحمل إلى الآن عنوان "برلين موريال"، والنص مشترك بيني وبين المنتجة، وقد أنجزت كثيراً من الرسومات اليدوية خلال فترة الحجر، وأصبح الفيلم على مقربة من المونتاج، وقد يحتاج وصوله إلى الصيغة النهائية للعرض من عام إلى عامين، بالإضافة إلى أنه لدي أرشيف مليء باللقطات المصورة التي تنتظر التنقيب فيها وتنظيمها للعمل عليها.

ليفانت - خاص

إعداد وحوار: ميرنا الرشيد 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!