الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
المثقف والمحنة السورية
جمال الشوفي

في زمن التشتت العام والتردّي العمومي والتهافت الذاتي وتزايد حدّة الانفلاقات البينية بين كافة مستويات الحالة السورية، حيث لا تجد إمكانية للتوافق العام ولو بالحدّ الأدنى، ما يجعل مهمة المثقف ليست الأقسى والأشقى فقط، بل الأكثر وضعاً على ألم وكشف عند محكات التجربة اليومية والمسؤولية التاريخية. المثقف 

 

جلال الدين الرومي وصف مرحلة التفكك العربي في عهد الدويلات والممالك، بقوله إنّ الحقيقة كانت مرآة بيد الله وقعت وتشظّت، كل فرد أخذ قطعة منها، نظر إليها وخال أنّه يملك الحقيقة كاملة! واليوم ليس بعيداً عن مجريات الأمس، بل ربما فاق في محتواه وكوارثه ما يزيد عنها.

 

 

فعلى بوابة القرن الحادي والعشرين تعود عصور السبي والغزو والوأد الحرام، حيث لم تقف المسألة عند حدود البلعمة العسكرية لقوى دولية وميليشيات طائفية وحسب، بل وصلت درجة السياسة والفكر والأداليج، وهذه المرة ليست بيد السلاطين وحسب، بل بين ذوات الطريق الواحد أو المهمة الواحدة المفترضة، كأنّه الإفلاس العام يشي بآخر عوارضه من طفح التهكم وجزافية التعميم والخلط بين الرأي والرغبة، وبين المعطيات والأرقام ومعايير الفعل والفاعلية، هذا دون الأخذ بعين الاعتبار احترام الرأي الآخر.

 

 

هذه المعطيات، والتي لا تمثّل سوى خلاصة سريعة لواقع كثيف أغزر من إمكانية جرده بمقال، تعود بنا لدور المثقف والنخبة ومسؤوليتها، اليوم والأمس وغداً. وحقيقة لا أعلم بدقة من أين تأتي الأحكام الجزافية والتصنيفية في الحالة السورية اليوم! ونفي العلم في بداية القول هو نفي لهذا اليقين المتشدّد الذي يمارسه التصنيف ذاته ضد المختلف رأياً أو فكراً أو سياسياً، كما هو محاولة شاقة لعدم الوقوع في شرك التوصيف الجائر الذي بات سمة عامة للمحنة السورية، خاصة وإن كان الحديث عن الثقافة والمثقف ودوره الممكن أو الواجب.

 

 

درجت معظم أنماط المثقف العربي ومنها السوري على الارتباط بنماذج جاهزة ومسبقة الصنع فكرياً وأيديولوجيا على وضع سمات مسبقة على المشتغلين بالشأن العام وخاصة الثقافي منها، فهناك:

 

 

-المثقف الناقد والمختصّ في مجالات محددة، أدبية أو فنية أو فكرية، وهذه شكلت حيزاً حوارياً نقدياً عريضاً في أواسط القرن الماضي، كتلك التي دارت حول مؤلفات طه حسين النقدية وغيرها، لكنها خفتت نسبياً مع تقدم منظومات العسكر في إحكام السيطرة على مناخات الحياة السياسية والثقافية العامة وظهور الحركات الراديكالية التكفيرية في ظلّها وحوادث تكفير نصر حامد بو زيد بمصر، أو محاولة اغتيال نجيب محفوظ، دليل لا تخطئه العين، ليكتفي معظم النقاد بالحيز الأدبي واللغوي والثقافي العام، مبتعدين عن السياسي المباشر تجنباً لبطش السلطات أو الحركات التكفيرية.

 

 

-في المقابل، برز دور مثقف السلطة، والذي يعمل كشعراء البلاط في القرون الماضية، ويقدّم توصيفات مزينة للحكام والسلاطين ويأخذ مكانة وحظوة عند صنّاع السياسة وحكام البلاد.

 

 

بين هذين النمطين الأكثر رواجاً على ساحة المنطقة العقود الماضية، برزت أنماط متعددة من المثقفين أهمها:

 

 

-المثقف الماركسي ذو الدور القيادي (الأنتلجينسيا) في المجتمع، والمنوط به حمل قضايا الأمة في الاشتراكية وقيادة الطبقة العاملة.

 

 

-وهناك المثقف الموسوعي القادر على الإجابة عن أي سؤال مطروح أمامه، في الفن والشعر والسياسة والاقتصاد، وفي علوم الاجتماع وفي كرة القدم أيضاً.

 

 

بينما بقي المثقف العضوي، حسب تعريف غرامشي، أسير قدرته على الحركة في الوسط الاجتماعي والسياسي بآن، فقل ما أتاحت له سلّط العسكر التحرّك الفعال في مجتمعه، ونادراً ما أتيحت منابر الحديث العلني أو التعبير المباشر سوى بالكتابة وهذه محط سؤال فيمن يقرأ أو متى يقرأ وغالباً تكون بعد موته.

 

 

المثقف العضوي الذي يربط بين فكره وثقافته وقيمه الإنسانية العامة، وبين ناسه ومحيطه ومشاكلهم وحياتهم، ويدافع عن قضاياهم ويقيم جسور التواصل الفعلية مع محيطه الحيوي من البشر بآمالهم وأحلامهم، يحاورهم ويفكر معهم في الحل عبر تقديم القيم والأفكار ورعاية نموها دون أن ينظّر عليهم من برج عاجي علوي، متهماً إياهم بالشعوبية أو التخلّف! وفي نفس الوقت يحذّر غرامشي من مثقفي الأنتلجنسيا الماركسيين الذين يمارسون دور الوصاية التاريخية على البشر ويمارسون معهم دور القادة الواجب اتباعهم، تلك التي عبر عنها فيلهم رايش بقوله "قفي، قفي أيتها الجماهير البروليتارية ألا ترين بأنّي محررك!"

 

 

أنماط الثقافة والمثقف تمايزت في النموذج الأوربي بين مثقف محافظ، وآخر ثوري، وآخر تنويري، وحقيقة أتيحت كامل الظروف الديموقراطية والحقوقية لبروز أنماط المثقفين العدة في ذلك الواقع، لكن في عالمنا الأسير، الشرق الأسير بالسلطات أولاً، وبالأداليج الموالية والمعارضة ثانياً، تجد اختلاط اللامنتهي بين المثقف والأدلوجة الحزبية ومنظريها، وبين الفعل القيمي والإنساني العام الذي يمكن أن يمارسه المفكر Intellectual (والذي اشتقت منه كلمة مثقف باللغة اللاتينية)، والذي يقوم برعاية مفاهيمه وقيمه الإنسانية وتواصلاته المعرفية في حيز عام اسمه ثقافة Culture (والتي تشير لرعاية الأرض وتنميتها لغوياً) لتبرز دور الأداليج التي تمارس فعل الثقف من منظور لغوي عربي، أي إعمال السيف، وهو دور النفي أو الإزاحة التي أشرنا إليه بداية، وكأن الموروث القبلي ساري المفعول بغالبية أداليج بني ساسة مهما تثاقفوا ومارسوا القراءة، وممارسة التوجه السياسي التنافسي الذي يعمل على إزاحة الخصم كلية سائد لليوم في شتّى الأوساط، ولا أعلم حقيقة الفرق بينهم وبين مثقفي السلطة، وهذه محنة كبرى.

 

 

اليوم، لو دافعت عن السوريين بمحيطهم السني والذين اقتلعوا من بيوتهم، ستجد تهمة الإرهاب أمامك جاهزة سلطوياً، وتهمة الانتماء للجماعات الإسلامية ماركسوياً وقوموياً، لدرجة تهمة الأخونة القطرية والتركية! ولو دافعت عن الكورد السوريين فيما تعرّضوا له من فصائل التطرّف الإسلامي، أو الزحف التركي الأخير في عفرين وغيرها، فستتهم بالانفصالية والتبعية للأجندات الإقليمية من باقي الجهات السلطوية والمعارضة، ولو دافعت عن حق الشباب الدروز بالحياة دون خوض معارك مجانية خاسرة وطنياً، فستتهم بالمثقف الأقلوي من كل صنوف المعارضة وبالداعم للحركات الخارجة عن القانون سلطوياً، فكيف وإن دافعت عن حرية المرأة وحقها في الحياة ولبس الحجاب أو قلعه.. فالويل والثبور من كل الصنوف وكل النماذج لا استثناء.

 

 

المثقف اليوم ووظيفته الأهم أو ما يمكن تصنيفه بالمثقف العصري هو من يستطيع أن يساهم في إعادة ما تشظّى منا اليوم، سواء كان سياسياً أو فكرياً أو قيمياً أو أهلياً وطائفياً، هو من يستطيع الخروج من هذه الحيزات الثقافوية الكلامية الضيقة لمساحة الفعل الإنساني العام معاكساً تيار الانحدار والمحنة هذه، ولربما تحاكي هذه المهمة ما كان يفعله الصينيون القدماء حين تنكسر جرة لديهم، فيعودون للحمها وإعادة صناعتها مرة أخرى قطعة قطعة، وقد تلوّنت بخطوط روحهم الصانعة والمبدعة، وهذا موقع ليس فنياً وحسب، بل إبداعي وخلاق يعاكس سير الاستسهال والرمي الجزافي، أو ما نسميه فكرياً بالنفي البين، الطلاق الذي لا رجعة فيه، في فوضى المحنة السورية العارمة. هو موقف المثقف اليوم حين يكون ذا اتساع ومعرفة، دون تحيز سياسي وأيدلوجي سوى لحقوق الإنسان والسلام والعدالة للبسطاء من البشر قبل ذوي المشاريع الكيدية السياسية الذي يصرّون على تفتيت ما تبقى من أجزاء هذا الوطن، جغرافياً وسياسياً وعسكرياً وقيمياً، وهذه مسؤولية فكرية وتاريخية وأخلاقية تسمى رعاية المتبقي منا، قيمةً وروحاً، تسمى فعلاً ثقافياً بلا أوصاف جزافية. المثقف 

 

جمال الشوفي

 

 

ليفانت - جمال الشوفي 

 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!