-
الكورونا، انزياح الشرّ البشري
في صباح اليوم التالي، وبعد مرور أقلّ من أربع وعشرين ساعة على قرار الحكومة الفرنسية بالتزام المواطنين للبيوت، وعدم الخروج إلّا في حالات محددة، تضمنتها وثيقة خطية، يُلزم بتوقيعها واصطحابها أثناء مغادرته، ليعرضها على الجهات الأمنية، في حال التوقيف والمساءلة، خرجتُ مصطحبة وثيقة موقّعة، أفسّر فيها سبب مغادرتي : القيام بنشاط رياضي فردي. انزياح الشرّ البشري
كانت الشوارع فارغة تماماً، من المارة والسيارات، كأّنني أسير وحدي في مدينة غير مأهولة، اكتشفتُ وجودها للتو.
كلما سرتُ أكثر، كانت تزداد فرص لقائي بعابر طريق، أو بسيارة، أو بدراجة نارية أو عجلة هوائية.
تضاعفت الفرص وأنا أتقدّم بالسير، وصادفت بعض المارة وتبادلنا ابتسامات قلقة، مع تحيات صوتيّة عن بُعد.
جميع جيراني يمكثون في بيوتهم، لكنّي لا أسمع ضجيجهم، ولا أصوات صخب أولادهم، الذي يصلني عادة في عطلة نهاية الأسبوع، حتى الكلاب التي اعتدت سماع نباحها في الحي، لم تعد أصواتها تأتيني. هناك اتّفاق ضمني وغريب على التزام البيت، بصمت.
ثمّة ترقّب منوط بالخوف، الكلّ يشعر بخطر الإصابة بالفيروس وباحتمال الموت. مجرد سعال خفيف، أو ارتفاع حرارة أحدهم، يجعله يشعر بالذعر. لم يعد أحد يفكر بأمر آخر سوى بكيفية النجاة.
هكذا تأجّل العالم! انزياح الشرّ البشري
كنت أمشي محاطة بإحساس كبير بالأمان، أمان أناني، أمان إنني وحدي في الشارع، دون خوف، أجل، في العادة، قد يخاف أحدنا من السير وحيداً في أماكن منعزلة، ولكن الخوف تنحّى الآن، لأن البشر الذين يسببون الخوف، لأقل الأشرار، منشغلون الآن بهوس الحفاظ على حياتهم.
إذن، لقد جعل هذا الفيروس العالم مكاناً جديداً لطريقة تفكير جديدة. تنحّى نهم احتلال العالم، والسيطرة على الآخرين، والتفوق الفردي، وجمع الثروات، وامتلاك السلطة. وكل هذه الشرور صارت خلفنا الآن، إذ وحّد الفيروس مشاعر البشر جميعاً تقريباً: كيف ننجو من الإصابة؟.
في طريق العودة، صادفت إحدى جاراتي تدخّن جالسة على حافة باب بيتها، لتذكّرني بعادة النساء في بلادنا، في الأرياف والأحياء الشعبية، حيث تجلسن أمام الأبواب، وتتسع الجلسات أحياناً، لتشمل ضيافة القهوة أو الشاي، أو حتى كيس البزر والبوشار والبسكويت لتتحول تلك الجلسات إلى استقبالات نسويّة تلقائية، محصورة بين النساء والأطفال.
توقفتُ، تفصلني عن جارتي مسافة آمنة، تفرضها الحكومة وتنصح بها، لسلامتنا، ورحنا نثرثر حول الفيروس ويومياتنا في ظلّ المنع من الخروج.
في الأحوال العادية، كانت علاقتي بجارتي لا تتجاوز السلام اللطيف والسريع، لكن الوضع الاستثنائي اليوم، جعلنا جميعاً نشعر إنّنا كتلة واحدة، ضدّ الفيروس، أي إنّ هذا الخوف من الموت بالفيروس وحّدنا، وألغى جميع الفوارق وأي إحساس بالتفوق من كائن على آخر، أو بالاستعلاء والشعور بالتميّز والأهمية. لم يعد المثقف أكثر أهمية من العادي، ولا السياسي صاحب السلطة، أهم من بائع على "بسطة"، ولا ضابط كبير في الجيش، أهم من سائق شاحنة، الجميع سواسية أمام الفيروس.
ربما ليس من المعيب أن يتعلم البشر في الكوارث، وربما علينا أن نستخلص درس الكورونا المهم، كم أساء الإنسان إلى الإنسان ذاته، وكم هو اليوم ضعيف وعاجز أمام وباء قد يحصد أي شخص، دون قدرة على صدّه، مهما بلغنا من ثراء أو سلطة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية؟، علينا اليوم العودة إلى الجذور، جذورنا الإنسانيّة، التي ظهرت الآن، في توحّدنا أمام الخوف، وتواضعنا أمام الموت. لنتعلّم كيف نمارس إنسانيتنا بعد نجاتنا، إذا نجونا، لتكون نجاة من الفيروس، ومن فيروساتنا الشريرة، اللامرئية، التي تسعى إلى تهديم الآخر، للصعود الشخصي. ليفانت
ليفانت - مها حسن
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!