الوضع المظلم
السبت ١٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
العلاقات المصرية التركية تعود للمربع صفر
داليا زيادة

يبدو أن العلاقات المصرية التركية قد عادت إلى المربع صفر، ليس فقط بسبب التوقف المفاجئ لمسار المحادثات المبدئية على المستويين الأمني والدبلوماسي، والتي تم عقدها بشكل مكثف خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، ووصلت ذروتها بين شهري مارس ومايو، ثم توقفت، ولكن أيضاً بسبب بعض التعقيدات الإقليمية التي يتأثر بها الطرفان ويؤثران فيها بشكل مباشر، لا سيما أن كل من القيادتين السياسيتين في مصر وتركيا يقفان على طرفي نقيض بشأن هذه القضايا، حيث لا يقتصر الأمر على تنافر المواقف بشأن القضايا الشرق أوسطية فقط، مثل الوضع في ليبيا وسوريا والعراق، ومؤخراً تونس، ولكن أيضاً على المستوى الأكبر في أفريقيا، حيث أزمة سد النهضة الأثيوبي، وفي أوروبا حيث الصراعات التاريخية على المياه الإقليمية في البحر المتوسط.


مع بداية التدخل التركي في ليبيا أواخر عام ٢٠١٩، واعتراض مصر على ذلك، وما تبعه من مناوشات كادت أن ترقى لحد الحرب بين مصر وتركيا بشأن ليبيا، بدأت الأجهزة المخابراتية التابعة للدولتين في التحاور بشكل مباشر لاحتواء الموقف السياسي والعسكري، مما أدى إلى كسر الجمود في علاقة البلدين والذي استمر لأكثر من سبع سنوات، كان عنوانها القطيعة الدبلوماسية والمكايدات السياسية التي وصلت لحد تعمد كل طرف الإضرار بمصالح الآخر.


ثم في شهر مارس، بدأ الحديث عن المصالحة المحتملة بين مصر وتركيا يأخذ شكلاً جاداً، لا سيما بعد نجاح المصالحة الخليجية بين قطر والسعودية والإمارات ومصر، وانتشار أخبار عن تدخل قطر لرأب الصدع في العلاقات بين مصر وتركيا. ثم بدأ التحاور بين البلدين ينتقل إلى المسار الدبلوماسي، وبالفعل تم عقد اجتماع في القاهرة على مستوى نواب وزراء الخارجية المصري والتركي من أجل إجراء محادثات استكشافية حول المصالحة.


ارتفعت الآمال كثيراً بنجاح المصالحة حينها، خصوصاً بعد أن اتخذت تركيا خطوات كبيرة بشأن تحجيم الآلة الإعلامية لعناصر جماعة الإخوان المسلمين المقيمين في تركيا، والذين كانوا يستهدفون تشويه الدولة المصرية والرئيس المصري بشكل مستمر ومزعج. كما أن الرئيس التركي أردوغان، وكذلك كبار المسؤولين في الحكومة التركية، خاصةً وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، ووزير الدفاع، خلوصي آكار، لم يدخروا فرصة دون أن يؤكدوا فيها على أهمية العلاقات مع مصر وعلى صدق نوايا تركيا في طي صفحة الماضي وحل الأمور التي تسببت في هذا الشقاق في العلاقات المصرية التركية منذ سبع سنوات مضت.


كان آخر هذه التصريحات، يوم ٢٥ يونيو، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، تانجو بيلجيش، والذي عقد مؤتمراً صحفياً أكد فيه على أن أنقرة تسعى إلى زيادة نقاط الاتفاق مع القاهرة، وأن تركيا حريصة على تطوير تفاهم مشترك مع مصر. قال بيلجيش: "إن العلاقات التركية المصرية مهمة جدا لاستقرار وازدهار المنطقة، كما أن مصر أكبر شريك تجاري لتركيا في أفريقيا. نولي أهمية لعلاقاتنا التاريخية والثقافية المشتركة والاتصالات بين شعبينا، وآخرها تأسيس مجموعة صداقة بين البلدين في البرلمان التركي، وزيارة سادات أونال، نائب وزير الخارجية، إلى القاهرة في مايو".


في نفس السياق، أكد بيلجيش على الهدف الأكبر من مساعي تركيا نحو تطوير علاقتها بدول الخليج العربي، خاصة المملكة العربية السعودية، من أجل تعزيز الأمن والاستقرار في هذه المنطقة. جدير بالذكر هنا أن تركيا، بالتوازي مع حوارها الممتد مع مصر، قد فتحت أيضاً حواراً مع السعودية من أجل رأب الصدع الذي حدث في العلاقات بين تركيا ودول الخليج بسبب المواقف المتناقضة بين كل من مصر والسعودية والإمارات على جانب في مقابل موقف تركيا على الجانب الآخر بشأن دعم جماعة الإخوان المسلمين.


لكن مع الأسف، تدل كل المؤشرات في الشهرين الأخيرين على أن العلاقات المصرية التركية بدأت تتدهور من جديد، حيث كان من المفترض أن تعقد خلال شهر يونيو الجولة الثانية من المحادثات الدبلوماسية الاستكشافية بين مصر وتركيا على مستوى نواب وزراء الخارجية، ولكن لم يحدث ذلك، ولا يعرف أحد لماذا تأجلت أم تم إلغاؤها كلياً. وأغلب الظن في أسباب ذلك هو الاعتراض الواسع الذي رأيناه داخل تركيا تجاه الأحكام القضائية بالإعدام الصادرة بحق قيادات جماعة الإخوان المسلمين في قضية اعتصام رابعة، بما يتناقض مع المبدأ الرئيسي الذي تصرّ عليه مصر في تأسيس علاقتها الجديدة مع تركيا، وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لمصر.


أول هذه المؤشرات كان كلمة الرئيس السيسي في المؤتمر الصحفي عقب لقائه مع رئيس الوزراء اليوناني، في النصف الأخير من شهر يونيو، حيث أكد على موقف مصر الثابت من الصراع في شرق البحر المتوسط، وضرورة التزام جميع الدول باحترام القانون الدولي واتفاقيات الأمم المتحدة، خاصة مبادئ عدم التدخل، واحترام السيادة والمياه الإقليمية للدول الأخرى. وأكد الرئيس السيسي على تضامن مصر مع اليونان ضد أي ممارسات من شأنها أن تنتهك سيادتها. على الرغم من أن الرئيس السيسي لم يسمِّ تركيا بشكل صريح، لكن الأمر واضح تماماً لكل من يتابع هذا الملف، ويحمل رسالة قوية لتركيا تختلف إلى حد ما عن الموقف الأكثر ليونة الذي اتخذته مصر تجاه صراعات البحر المتوسط في الأشهر الثلاثة السابقة لذلك.


وفي اليوم التالي مباشرةً، التقى رئيس مصر مع وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء منقوش، والمعروف عنها موقفها الرافض بشدة للوجود العسكري التركي في داخل ليبيا، وقد أثنى الرئيس على موقفها هذا ووصفه بأنه "موقف وطني"، وقال لها "نحن ندعمك في دعوتك لطرد المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا". وهو أمر أثار حفيظة تركيا، وانعكس بشكل واضح في المواقف الحادة التي اتخذها كل من الطرفين بشأن ليبيا في مؤتمر برلين الثاني الذي عقد في نفس الأسبوع.


ومع تصاعد أزمة حرائق الغابات التي طالت قطاعاً كبيراً من جنوب تركيا، وكذلك بعض الجزر اليونانية تسببت في كارثة إنسانية واقتصادية، اكتفت مصر بإصدار بيان تعزية وتضامن مع الشعب التركي من وزارة الخارجية المصرية على غرار البيان الذي كانت أصدرته تركيا تضامناً مع الشعب المصري أيضاً في أزمة القطار التي أودت بحياة العشرات قبل شهرين، بينما أرسلت القوات المسلحة المصرية طائرات هليكوبتر مجهزة بالكامل إلى اليونان للمشاركة في عمليات مكافحة الحرائق، وعنون البيان الرسمي الصادر عن القوات المسلحة المصرية بهذا الشأن، هذا الإجراء، على أنه يتم في إطار التزام مصر بدعم الدول الشقيقة والصديقة في أزماتها، وهو أمر تسبب في خيبة أمل كبيرة في تركيا.


لكن يبدو أن موقف مصر هذا كان رداً على موقف تركيا المستفز من قضية سد النهضة الأثيوبي، والتي تمثل لمصر مسألة حياة أو موت، وهي الصراع الأهم على الإطلاق الذي تخوضه مصر في المرحلة الحالية. حيث أجرى رئيس تركيا أردوغان اتصالاً مع رئيس وزراء أثيوبيا، آبي أحمد، مطلع شهر أغسطس، أكد فيه على تضامنه مع موقف حكومة آبي أحمد من الصراعات الداخلية والخارجية المنخرطة بها، وأن تركيا سوف تستمر في توفير كافة أنواع الدعم لإثيوبيا. وبهذه التصريحات يكون الرئيس أردوغان قد اختار بشكل واضح أن يقف في مواجهة مصر في صراعها مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، التي تعتبرها مصر مسألة أمن قومي. هذا على الرغم من أنه في شهر مارس، اقترحت تركيا مساعدة مصر في حل الصراع بشأن سد النهضة، بوصفها ثالث أكبر مستثمر في إثيوبيا، بعد الصين والسعودية.


كل هذه المؤشرات تخبرنا بشيء واحد: مع الأسف المحادثات المصرية التركية تقف الآن على حافة الفشل، إن لم تكن قد فشلت بالفعل، والفترة القادمة ستشهد عودة المكايدات السياسية بين البلدين بشكل أكثر حدة مما سبق، وربما يؤثر ذلك على علاقات إقليمية أخرى، خصوصاً بين دول الخليج العربي، بما فيها السعودية وقطر، وبين دول الخليج وتركيا، كما قد تتأثر بعض الدول المضطربة سياسياً في شمال أفريقيا، مثل ليبيا وتونس.


داليا زيادة

ليفانت - داليا زيادة

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!