الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
العالم بعد كورونا
د. كمال اللبواني

خمسة مليارات شخص سيصابون وبحسب نسب الوفيات التي يعطونها، فإن 150 مليون إنسان سيموتون كحدّ أدنى، وقد تمرّ سنة ونصف قبل أن يبلغ المرض ذروته المتوقعة طالما نتعامل معه بهذه الطريقة المجنونة، فهل نتصوّر حجم الكارثة؟. العالم بعد كورونا


النتائج المتوقعة لانتشار هذه الجائحة تعادل نتائج حرب عالمية من ناحية الخسائر البشرية والاقتصادية وما يتبعها من تغيرات في الذهنيات والمشاعر والتغيرات الجيوسياسية، باعتبارها ناتجاً عن كل هذا، والأهم من ذلك التغيرات في النظام العالمي برمته. العالم بعد كورونا لن يكون كالعالم قبلها.



في العقد المنصرم كشفت الكارثة التي حلّت بالشعب السوري خاصة، وبالمنطقة عامة، مدى خراب النظام العالمي السياسي والقيمي، فقد كانت أسوأ كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، أما التدنّي الأخلاقي ومستوى الجريمة وبشاعتها فقد كان غير مسبوق في تاريخ الحروب كلها، حتى أصبح شعار مالنا غيرك يالله، هو دعاء كل من انقطعت به السبل وفقد كل أمل في ضمير البشرية، تمثّله قصة الطفل السوري المصاب الذي قال عندما أيقن أنه سيموت  سأخبر الله بكل شيء.  العالم بعد كورونا


وطالما أنّ المرض هو قضاء من الله، فلا بدّ من مشيئة وراء انتشاره في هذا التوقيت، وبهذه الطريقة والحجم، وليس من الخطأ تفسيره كتدخل منه بعد أن سار البشر بعيداً عن إرادته وحكمته في هذا الوجود الذي هو من مخلوقاته وتحت حفظه، رغم إعطائه العقل والحرية للبشر امتحاناً واختباراً لهم، فقد ظهرت نتيجة الامتحان واضحة للعيان ورسبت الإنسانية وحملت عاراً يصعب محوه عن جبينها.


أزمات العالم ليست فقط أخلاقية وقيمية على أهميتها، بل هي أزمات تتعلق بنظام العالم السياسي الاقتصادي الذي يتوحد بسرعة من دون ضوابط ومثل، ومن دون مؤسسات تنظّمه وتتناسب مع واقعه الجديد، فالأمم المتحدة ومجلس الأمن محكومون لغطرسة القوي بسبب الفيتو، والنظام القضائي العالمي مشلول تماماً تجاه الجرائم ضدّ الإنسانية التي هي اختصاصه، والكراهية والحقد الديني والعنصري مستفحلة وتكاد تكون المحرك الأساسي للسياسات في المنطقة التي اختارها الله مهداً للديانات السماوية ومنبعاً للحضارة عبر التاريخ.


الجشع والطمع هو المحرك الأساسي لمعظم دول العالم بما فيها المتحضرة، لا أحد له مصلحة بالقيم ولا بالمثل، ولا يعتبر نفسه مسؤولاً عن إحقاق الحق، ونصرة المظلوم، ومساعدة العاجز والضعيف، أما عن البيئة فحدّث ولا حرج، فالبشرية تتعامل مع الطبيعة اللطيفة التي خلقها الله بهمجية المتجبر، كراعٍ لا يهمه إذا نبت بعده الزرع وتجدّد، النظام العالمي مستعجل لدمار بيئته ومناخه، وموارده الغير قابلة للتعويض، وأدوات الإنسان تطورت كثيراً وأصبحت حوالي مائة ضعف ما كانت عليه قبل قرن، تعطيه قدرات ضخمة على التأثير فهو يستهلك كميات هائلة من الطاقة القذرة تعجز الإمكانيات المحدودة لمناخ الأرض عن استيعابها، ومع ذلك لا خطة ولا بديل ولا مخرج منظور ولا أحد يستمع لصيحات العارفين. لأنّ قيم العالم وأخلاقه ونظمه لم ترتقِ ولم ترتفع لتوازي تطوّره المادي بل بالعكس تدنّت وتخلّفت عما كانت عليه.


الاقتصاد العالمي قائم على تشجيع الاستهلاك لدرجة جنونيّة، وعلى الاستغلال والتبادل غير المتكافئ، وعلى الغشّ والخداع، وقد أصبحت القيم الوهمية تعادل ستة أضعاف القيم الحقيقية وهي مرشحة للتضاعف هذا العام بسبب السياسات التضخمية التي تحلّ بها الدول أزماتها، فقد زادت الولايات المتحدة عدد الدولارات في السوق العالمي بنسبة النصف، وتبعها الاتحاد الأوروبي وبقية الدول وهي قيم تضخمية لا سند ولا رصيد لها في عالم الاقتصاد الحقيقي، هذا هو خطر الاقتصاد الربوي الذي يعتبر قطاع المال قطاعاً إنتاجيا كغيره، ويضيفه للاقتصاد كقيمة بحدّ ذاته ،فسندات الدين تصبح إنتاجاً وقيماً وحقلاً للاستثمار، بما يناقض دور النقد الأصلي بتمثيل القيم في السوق التداولية، النقد الورقي والرقمي ليس سلعة منتجة بل سند قيمة افتراضي، وبغياب الممثل أي السلع يصبح النموّ الاقتصادي وهمياً وفقاعياً وهو ما نشهده باضطراد سريع لا ندري إلى ماذا سيوصلنا. بشهر واحد خسر كل إنسان ثلث دخله الحقيقي وثلث قيمة ما يحمله من نقود وسندات، والحبل على الجرار، والفقر قادم لا محالة. العالم بعد كورونا


أما سياسياً، فمن النادر أن تجد حاكماً عاقلاً، فالعالم لا يحكمه إلا المجانين والحمقى والفاسدين ورجال العصابات والمستبدين والفاشلين وقليلي الخبرة والضمير، بالرغم من المظاهر الديموقراطية التي أثبتت هي أيضا قصورها وعجزها عن تمثيل إرادة الشعب، فالنتيجة الفعلية للعملية الديموقراطية هي شيء لم يكُ يريده أغلب الشعب، وهذه المفارقة العجيبة تستدعي التفكير مليّاً في آلياتها وطريقة عملها.


أما الدين فقد هجر مسكنه الأصلي (عالم الضمير)، وصار وسيلة لتبادل الحقد والعنف والوصول للسلطة والثروة والتحكم بالبشر بعكس غاياته، وتزداد العنصرية والكراهية والنزاعات باضطراد بمقدار تزايد اندماج البشر وانزياحات السكان بفعل الهجرات والعولمة.


هكذا ولكي ينهار هذا النظام العالمي الفاسد  ويعاد تركيبه لا بدّ من ضربة في مستوى الحرب العالمية تحطمه، لكنها هذه المرة جاءت لطفاً من الله بسلاح مخفف هو الفيروس، كي لا تذهب البشرية لحرب عالمية نووية، كانت قد أصبحت وشيكة بفضل حماقات الحكام.


لا الصين، ولا أمريكا ولا أوروبا ولا روسيا بعد كورونا ستكون كما كانت قبلها، ولن يفيد رجال المافيا الحاكمين إنزال الجيوش لمحاربة الفيروس ولا لإنعاش الاقتصاد، ولا يهمّ إحصاء عدد من يتوفاهم الله بل المهم بحث كيف سيعيش من سيلطف بهم، معادلات التوازن في العالم تختلّ وتتداعى تباعاً، كل ما سنشهده من انهيارات هو مقدمة لنظام عالمي جديد يعاد بناؤه حتى لو لم نرسم مسبقاً ملامحه ونعجز عن تقديرها، لكن ضغوطات الواقع ومتغيراته ستفرض نفسها على وعينا ولا وعينا، وستعبر عن نفسها حتما فيه.


هكذا تصبح نتائج بعث كورونا رحمة من القدر ينقذ بها البشرية من حرب كونية نووية ومن دمار الكوكب الذي ستتسبب به وحشية البشر وجنونهم والذي بدا بشكل واضح في طريقة تعاملهم مع كارثة الشعب السوري، التي تحوّلت إلى لعنة تطال الجميع، كما قال الحاخام اليهودي الخبير باللعنات الإلهية، لكن لطف القضاء اختار كورونا وسيلة بدلا عن وسائلنا الهمجية التي نصنع منها ما يمكنه تدمير عشرة كواكب أخرى ككوكب الأرض. وكلها بحجة الدفاع عن النفس؟، فلماذا لا تدافعون عن وجود البشرية وتريحونا منكم ومن نظرياتكم القومية والأيديولوجية وخلافاتكم وأسلحتكم؟.


كلُّ ما يأتي من الله فهو خير. على الأقل هذه الشدائد تدفع الإنسان لمراجعة النفس والتفكير من جديد بما فعل وما سيفعل، هذه الصفعة الإلهية كانت ضرورية لإيقاظ البشرية من سكرة الاستهلاك المجنون والتنافس الغير شريف، والبحث المجنون عن اللذة. وكورونا قضاء الله الذي لا مفرّ منه، والذي يتسلط على كل إنسان أينما كان ومن دون تمييز، اليوم لم يعد الحديث عن كيف نتّقي المرض فكل ما نفعله هراء ولا مفرّ من القدر، بل عن عمّا سيفعله هذا القدر بنا وما هي غايته، فنحن كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه عندما حوّل طريقه عن منطقة ضربها الوباء: "نهرب من قدر الله إلى قدر الله"، نحن كما تفعل بعض الدول التي تحتفظ بعقلها ولم يصيبها جنون الهلع بعد، لا نسأل الله ردّ القضاء ولكن اللطف فيه، فهو اللطيف الخبير.


أما من يصرخون ويقلقون ويحتجّون ويتدافعون ويدوس بعضهم بعضاً، فلن يغير ذلك من حالهم أبداً، فالعالم قد خلق على الخوف والنقص والفاقة والشحّ والتعب كامتحان للبشر، فلا تتخيّلوا الراحة والهناء مهما بلغتم، أبعدوا الجيش عن الطرقات ودعوا القدر يفعل ما يشاء فلستم أقدر منه، هذه الحضارة المتغطرسة التي عجزت عن إيجاد حلّ لمأساة الشعب السوري، بل كانت هي سببها أصلاً، واستهونت ما يجري بحقه من جرائم، لا بد أن تدفع الثمن، وإلا فلا عدالة في الخلق، وهنيئاً لكل جبار متكبر ومستبد وفاجر، من دون كرورونا كنا سنقول، إنّ الله قد تخلى عن العالم لبوتن وترامب، لكن بعدها نشعر بأننا تحت ألطافه سبحانه. العالم بعد كورونا


كثير من دول العالم قد أرسلت جيوشها لسورية لكن أحداً لا يريد مقاتلة المجرم السفاح؟، الكلّ مستعد لقتل الشعب فقط، العالم الذي تخلّى عن انسانيته لا يستحق الرحمة الإلهية، 15 مرة تعطل مجلس الأمن بالفيتو الروسي الصيني، ولم يتحرّك لوضع حدّ لجرائم ضد الانسانية تحدث لشعب ضعيف تكالبت عليه الجيوش والمرتزقة، هذه الجيوش الجرّارة التي تحتلّ اليوم عواصمها ومدنها عجزت عن وضع حدّ لجيش الأسد وشبيحته، فعاقبها الله، لم يستمع الضمير الإنساني لصرخات الثكالى والأمهات ولا للغارقين بين الأمواج أو تحت ركام منازلهم، ولا للمحجوزين في الأقبية خوفاً من براميل الأسد وصواريخ بوتين ومجرمي إيران، لم يستمع العالم لصرخات الذين يموتون تحت التعذيب في زنازين الأسد، حرقاً وفعساً وتكسيراً  بمئات الآلاف، ولم يشاهد ذلّ العيش في الخيم وفي العراء لملايين السوريين، ولا جوع المحاصرين الذين أكلوا أوراق الشجر، تنفيذاً لسياسة الجوع أو الركوع ولم يشعر بحسرة المرضى والجرحى المتروكين لمصيرهم. لذلك أرسل الله إلى الإنسانيّة أتفه مخلوقاته لتفعل بها ما فعله أحقر البشر وسادة العالم بالشعب السوري، الذي لم ينقطع عن الدعاء.


نعم، الله هو المنتقم وهو الحق، وما يأتي منه هو الخير، وهو قد سمع دعاء المظلوم واستجاب له، لا اعتراض على حكمه، بل نتّعظ ونتّقي. ما انتظره المظلومون السوريون من العالم ولم يحصلوا عليه سيأخذونه بحكمة القدر وقضائه، والله غالب أمره لكن أكثر الناس لا يعقلون.



ليفانت - كمال اللبواني 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!