الوضع المظلم
الجمعة ١٩ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
الصراع بين الشرق والغرب
حميد خلف

لا يرى الغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا إلا صور حروبه في القرن الماضي، فالذاكرة الغربية مليئة بتاريخ دموي حافل بالصراع بين الإمبراطوريات والقوميات وسقوط الدول وقيامها من رماد الحرائق أو اختفائها كما يختفي ضباب الصباح، في تعبير الفيلسوف البريطاني برتراند راسل.

فالغرب يرى في سقوط كييف أمراً خطيراً على أمنه الاستراتيجي. وهو قلق ولا يعرف مصيرها فتسقط وتسقط معها أشياء كثيرة أو تنتصر لتخلد في سياق ما سماه جون بايدن بالانتصار الاستراتيجي على روسيا. فأدركت أمريكا وحلفاؤها أن هذه الحروب الصغيرة، التي دارت وتدار الآن في الشرق الأوسط، لا قيمة لها ما لم تحسم المعركة الكبرى في أوراسيا، وخاصة في ساحة الاشتباك بين روسيا وأوكرانيا.

هذه الحرب إنما هي فصل في كتاب كبير تتحرك فيه خطوط الخرائط. هنا في ساحة الاشتباك على الأراضي الأوكرانية يتشكل نظام عالمي جديد بين الشرق والغرب. فأصوات المدافع والطائرات وهي تفتك بالمدن الأوكرانية توقظ كوابيس كل الحروب في الغرب، وكأنها صدى لصوت آتٍ من عمق التاريخ الغربي ويفتح التاريخ كتابه الكبير ليكشف لنا دوافع الحرب الدائرة بين الشرق والغرب عبر صراع الأيدولوجيات السياسية والعقائدية، صاغها مفكرون وسياسيون وجغرافيون منذ قرنين.

وتعود فكرة أوراسيا إلى المفكر البريطاني، هالفورد ماكندر، صاحب نظرية "المحيط الجغرافي للتاريخ" الذي تحدث عن أهمية هذه المنطقة في المستقبل. إن من يسيطر على قلب أوراسيا، ويقصد أوكرانيا، سيسيطر على العالم. وهناك مقاربات أخرى ذات صلة، كالمفكر السياسي الألماني فريدريك راتزل، وهو مختص بالجغرافيا السياسية الذي يقول إن الرأسمالية تنمو وتتصاعد وتحتاج بذلك إلى مساحات جغرافية واسعة لضمان واستمرار قوتها. وإن مستقبل العالم سوف يتحدد في أوراسيا.

كمان أن الأمريكي نيكولاس سبيكمان، وهو جيواستراتيجي، صاحب نظرية《الريملاند》يتحدث فيها عن أهمية الحواف البحرية، ولكي تستطيع أمريكا أن تسيطر على الحواف البحرية، لا بد أن تمتلك أسطولاً عسكرياً ضخماً. ومن هنا جاء اهتمام أمريكا بالقوة البحرية وإنشاء المزيد من الأساطيل لكي يؤهلها السيطرة على كل المحيطات والبحار، أيضاً تحدث الأمريكي ألفريد ماهان، وهو باحث جيواستراتيجي في كتابه "قوة البحر في التاريخ"، أن الصراع بدأ منذ مطلع القرن الثالث عشر بين الإمبراطوريات البحرية، إسبانيا والبرتغال وهولندا وبريطانيا، وحالياً أمريكا والإمبراطوريات البرية، روسيا والصين وتركيا العثمانية. أيضاً مقاربة بريحينسكي، الذي يعتبر أعظم عقل سياسي في التاريخ المعاصر، يقول يجب ألا تفرح أمريكا بسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي وتفكيكها لأن ما سقط ليس روسيا وإنما النظام. أما وإن قدر لروسيا أن تستطيع النهوض مجدداً ستشكل تحدياً لأمريكا. ويجب على أمريكا السعي إلى إضعاف روسيا عبر دمج الدول المحاذية لها لحلف الناتو، والسيطرة على قلب أوراسيا، ويقصد بها أوكرانيا.

أما المفكر السياسي صموائيل هنتغتون، أيضاً هو الآخر يتحدث عن صراع الحضارات بين الأديان، وخاصة بين الأرثوذكسية والكاثوليكية، ويعتبر أن موسكو هي بيزنطة الجديدة. أما عن روسيا التي تتصارع مع الغرب قديماً وحديثاً، كما نراها الآن، فهي تحاول توسيع هيمنتها على جوارها، وخاصة أوكرانيا وبولندا، عبر "نظرية أوراسيا" التي صاغها المفكر الروسي الأشهر، ألكسندر دوغين، الذي يدعو إلى الرجوع للتراث التاريخي لروسيا القيصرية عبر الرجوع إلى الأرثوذكسية، وأن القيم والأفكار الغربية لا تنفعنا نحن من الشرق. ويقول "إذا لم تكن روسيا دولة كبيرة وقوية في العالم فلا حاجة لنا بالعالم". ومن هنا قام بوتين بتعديل الدستور ليستمر في الحكم كقيصر جديد يقود روسيا لاستعادة أمجادها التاريخية والدينية على خطى بطرس الأكبر.

يستلهم بوتين نزعته التوسعية وحنينه إلى التاريخ الروسي القديم من وحي أفكار دوغين. دون قيصر في الرأس وإله في القلب لا يمكن لروسيا أن تستمر. فالصراع التي يدار بالدبابات والطائرات الآن في ساحة الاشتباك بين روسيا وأوكرانيا كان يدار أيضاً عبر الأيديولوجيات الفكرية والعقائدية الدينية بين الشرق والغرب، الذي عبر عنها شاعر الإمبراطورية البريطانية، كبلنغ، الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن أن يلتقيا.
 

ليفانت - حميد خلف

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!