الوضع المظلم
الخميس ٢٨ / مارس / ٢٠٢٤
Logo
السياسة التركية الراهنة والثورة السورية
عمار ديوب

لا تختلف رؤية تركيا عن الشقيقات العربيات في النظر للثورة السورية، منذ 2011 وإلى الآن، هي ثورة شعبية ويجب تحويلها إلى حركة ضاغطة من أجل إصلاح النظام أو إلى حرب أهلية، وحصرها بحدود هذا البلد، وكذلك حاولوا مع بقية الثورات العربية.

نعم الشعب لم يكن يريد ثورة كاملة، ولكن نفاذ إمكانيات الإصلاح لدى النظام، منذ عام 2000، حيث رفض الإصلاح السياسي وتحدث عن إصلاح إداريٍّ واقتصاديٍّ، ومن هذه الثرثرات، ومنهجيته "النظام" بالقمع، أجبرت الشعب على التخلص من الأوهام الإصلاحية وتبنى الثورة، وهو ما تطوّرت عليه الأوضاع بعد الأشهر الأولى من عام 2011.

تركيا والشقيقات، حاولن جاهدات، وبزيارات مكوكية إلى دمشق ولملاقاة الحراك الشعبي، وتلبية بعض مطالبه وتخميده. رفض النظام ذلك، دفع تلك الدول للانتقال من الإصلاح إلى الانتقام وإغراق سوريا بالحرب الأهلية، إذ شاركت مع النظام في جعلها كذلك، وانحرفت قطاعات كبيرة من الثورة إلى حربٍ أهلية؛ أيديولوجيتها الأديان والطوائف والقبائل والقوميات؛ لم تنظر تركيا إلى الثورة السورية إلّا انطلاقاً من منظورها السابق: إمّا إصلاح النظام وإمّا دعم الإخوان المسلمين ليكونوا في صدارة الثورة والمعارضة، وكان ضعف الإخوان، والتحذيرات الدولية من سياساتهم سبباً في إشراك مجموعات أخرى في المعارضة، ولكن وبما يعطي للإخوان وأحزابهم وشللهم الفاسدة السيطرة على مؤسسات المعارضة.

إذاً لم ترَ تركيا ثورة في سوريا أبداً. رأت النظام والإخوان فقط. هذه الرؤية القاصرة قيدت تلك الرؤية، وكذلك قيدت نفسها بمصالح الدول الكبرى، وبشعورها بالخطر والتورط في حال التدخل العسكري في سوريا. تأخرها ذاك سمح بظهور داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام وسواه، ولاحقاً الاتحاد الدولي لمحاربة الإرهاب 2014 ودخول الروس 2015. بذلك فقدت أية إمكانية للعب دورٍ مركزيٍّ في سوريا، وصارت رهينة إمّا للروس ولاحقاً حتى لإيران وإسرائيل، وإمّا للتحالف الدولي. هذا جعل تركيا تُمركِز أسباب دورها في سوريا بمحاربة الأكراد، وتحديداً التابعين لحزب العمال الكردستاني، وصارت السياسة التركية محكومة بالمعادلات الإقليمية والدولية، وهذا أجبرها على التحالف مع الروس والإيرانيين، والخضوع للأمريكان في أية معركة ضد الأكراد، ومن أجل أمنها الإقليمي كما تدعي، وأصبحت لا تقبل باتفاقية أضنة، 5 كيلومترات، وتريد السيطرة على 30 كيلو متر من الأراضي السورية، عند الحدود السورية.

إن تحالف تركيا مع روسيا وإيران كان سبباً في ازدياد تهجير ملايين السوريين، بدءاً من حلب، ولاحقاً ما سُمي مناطق خفض التصعيد الأربعة، ولم يبق منها إلّا بعض مناطق إدلب وأرياف حماة وحلب واللاذقية. إن تدفق ملايين اللاجئين إلى الأراضي التركية، وإلى كل دول العالم، وهناك من حُشِرَ في مناطق حدودية داخل سوريا أو على الشريط الحدودي ضمن تركيا، وهناك كثافة عدديّة في إدلب؛ كثافة اللاجئين هذه، دفعت تركيا للتفاوض مع روسيا وأمريكا خاصة، وسُمِح لها بإجراء عدّة غزوات للأراضي السورية، وأعادت قسماً من السوريين إليها، والآن تعمل على إعادة أكثر من مليون لاجئ إلى وحدات سكينة، تبنى حالياً، وستكون عودتهم في الأشهر اللاحقة، وبما يساعد حزب أردوغان على الفوز بالانتخابات في 2023؛ وبما يُخرِس أصوات المعارضة التركية، التي ترى أن سوريا آمنة واللاجئين يأكلون قوت الأتراك، ويجب إعادتهم إلى سوريا.

مع إعادة حلب الشرقية للنظام، وتوقيع اتفاقيات خفض التصعيد، افتتح الروس والأتراك خاصة مسار آستانا وسوتشي وجنيف، وسوتشي أردوغان وبوتين، وزيارات مكوكية بين الوفود الدبلوماسية والعسكرية التركية والروسية من أجل تدوير الزوايا وحل الخلافات التي تبرز في مناطق سيطرة كل من تركيا والروس داخل سوريا. كانت الرؤية الروسية أن النظام انتصر، وعلى الأتراك أن يعيدوا علاقاتهم معه. تم ذلك ضمن الاستخبارات، ولاحقاً برزت مواقف عديدة تقول بأن ذلك ممكن، شريطة أن يقبل النظام بالمعارضة، ولكن الأول رفض ذلك، ولم يعطِ المعارضة شيئاً في اللجنة الدستورية، وفي أستانا أعطت المعارضة مناطق خفض التصعيد بالتدريج.

إن روسيا التي تجد تركيا ضعيفة، ومهمشة لدى حلف الناتو وأمريكا، وهي كذلك بالفعل، تريد، أي تركيا، إقامة علاقات اقتصادية وعسكرية قوية مع روسيا، وراحت تتدرج بالتنازلات إزاء النظام، حتى وصل الأمر إلى لقاء وزيري خارجية تركيا وسوريا مؤخراً، والتصريح الذي أصدره التركي، ويفيد بأن الموقف التركي يرى بضرورة تصالح النظام والمعارضة، وهذا جوهر السياسة التركية قبل 2011 وبعده؛ فتركيا ترى أن المشكلة في سوريا، هي اختلاف النظام والمعارضة، وبالتحديد الإخوان وحلفاؤهم، وبالتالي لا بد من التصالح.

ليلة البارحة شعرت بلداتٍ سورية "محررة" بغبنٍ كبيرٍ، وبدأت بمظاهرات واسعة، شملت تقريباً كافة المناطق الخارجة عن النظام باستثناء مناطق قسد، وجوهرها رفض الموقف التركي، بل وحَرقت العلم التركي، وطَردت بعض الدوريات التركية. الموقف الجديد هذا، يأتي كإعلانٍ سياسيٍّ جديدٍ، ومفاده أن السوريين خارج سيطرة النظام ليسوا بجعبة تركيا، ولا ينطلقون من رؤية دينية اتجاهها، وهو ما عمل عليه الإخوان والسلفيون، وأن لديهم قضية وطنية، اسمها سوريا، وجرت بها ثورة، ولشعبها مجموعة من الحقوق، وأوّلها تغيير النظام وليس التصالح معه، وأن كل تسوية سياسية، أو تصالح سياسي، يجب ألّا يتخطى تلك الحقوق.

ردة الفعل هذه، ولن أسميها موقفاً صلباً ورؤية وطنية جادة، حيث يمكن أن تتطور الأوضاع عكس ذلك، سيما أن القوى السورية التابعة لتركيا من عسكريين ومدنيين وأمراء حرب سيعملون فوراً على إيقاف المظاهرات، وسيعمل الأتراك أنفسهم على قراءة مختلفة لتصريح وزير الخارجية التركية، حيث إن تطور المظاهرات قد يفسد كل التحالفات بين تركيا وروسيا وإيران، وطبعاً ليس من مصلحة روسيا أو إيران أن تخرج مناطق سيطرة تركيا أو هيئة تحرير الشام وربما مناطق قسد، وربما مدن سورية أخرى عن السيطرة الإقليمية.

لا شك أن الثورة هزمها النظام وحلفاؤه، وكذلك هزمتها تيارات المعارضة المكرسة وحلفاؤها. مع ذلك، ورغم تجفيف المناطق التي ثارت، فإن معظمها في أحوال سيئة للغاية وقابلة للاشتعال من جديد، وقضاياها لم تتحقق أبداً، بل هم يشاهدون كيف يتقاسم أحلاف النظام والمعارضة سوريا. تلك الهزيمة لا تعني هزيمة كاملة؛ فالنظام لم يعتمد سياسة جديدة، وهناك قوى الأمر الواقع التابعة للدول، وهناك احتلالات، ويأتي الآن الحديث عن التطبيع مع النظام ومحاولة التصالح معه، وهذا يعني شطب كل المظالم والقتل والتهجير، وما جرى منذ 2011، وهذا ما لا يمكن قبوله، ولهذا رأينا تلك التظاهرات، الرافضة ليس للنظام هذه المرّة، بل ولكل من يحاول التصالح معه؛ أي تركيا.

فهل يتجه السوريون نحو خطابٍ وطنيٍّ رافضٍ لقوى الأمر الواقع ولكافة الاحتلالات، وتتشكل رؤية وطنية مواطنية في كل الأرض السورية؛ هي مهمة صعبة للغاية، ولكنها وحدها من تعيد للسوريين صوتهم ودورهم في تقرير مصيرهم.

ليفانت – عمّار ديّوب

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!