الوضع المظلم
السبت ٢٨ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
السوريون في أوروبا: اربطوا الأحزمة
كمال اللبواني

منذ أن استخدمت قضية العمال القادمين من أوروبا الشرقية لتمرير استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبحت قضية اللاجئين هي محور التنافس الانتخابي الرئيس في أوروبا، التي تعاني من تدهور اقتصادي مستمر منذ عقدين.


وفي العام الأخير بسبب كورونا، وفي فرنسا، بشكل خاص، التي أصبحت مهددة أكثر من غيرها بتحولات جيوسياسية كبرى، تعلن عن تقهقرها من مصافي الدول العظمى لمصافي الدول المكافحة والمناضلة، وكانت قد لعبت عمليات الترهيب التي قامت بها داعش قبل سنوات، دوراً في تراجع دخل فرنسا السياحي بشكل كبير، وأصبح المجتمع الفرنسي ينظر بعين الخوف من تزايد وقوة الجالية العربية والإسلامية التي تقطن أحياء تشبه بلدانها المتخلفة، فمستقبل فرنسا أصبح مرسوماً أمامها في صورة تلك الأحياء وفي نمط العيش فيها.


فرنسا العظيمة التي بنى مجدها نابليون، والتي حاول ديغول استعادتها، قد صارت مجرد ماض وذكرى، حتى إنّها خسرت ميدان التنافس الاقتصادي مع ألمانيا التي أسست معها الاتحاد الأوروبي الذي يتجه بشكل سريع ليصبح إمبراطورية اقتصادية ألمانية بامتياز .


كل تلك العوامل، لم تستطع التعبير عن نفسها في نبض الشارع بقدر ذلك التحدّي الذي يطال الهوية الفرنسية، والذي يهدّده التشدّد الإسلامي، والذي صار الخصم الجديد الشرير الذي ترمى عليه كل مشاكل فرنسا الحرة، تماماً بالشكل الذي نمت به النزعة ضد السامية في ألمانيا، سابقاً، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.


اليمين الفرنسي الفاشي كان يحقق تقدماً ملحوظاً من نهاية عهد ميتران، وكان يجبر اليمين واليسار على التوافق لمنعه من الفوز، لكنه الآن قد أصبح القوة الانتخابية الأهم التي قد تستطيع الفوز لوحدها بأغلبية أصوات الناخبين، وبالتالي التمكن من فرض سياسات مختلفة جذرياً تجعلنا نترحم على فرنسا التي نعرفها.


منذ عقود تراجع الحزب الشيوعي الفرنسي كثيراً، من قوة ثالثة مرجّحة لكفة الاشتراكيين، ليصل نقطة الصفر حالياً، وتراجع التيار اليمين الديغولي أيضاً بعد شيراك، ثم انطفأت نار الحزب الاشتراكي بعد عهد أولاند، وهكذا لم يستطع اليمين المعتدل التقليدي أن يبني تياراً سياسياً متماسكاً، بالرغم من محاولة ماكرون، الذي جاء كمنقذ من هيمنة اليمين الفاشي المتطرّف، لكنّه أدرك أخيرا أنّه يجب عليه أن يحجز مقعده في صفوف التيار اليميني المتطرّف لكي يستمر في الحياة السياسية القادمة، ففرنسا لن تستطيع الاستمرار في سياسة الرفاهية التي تنتهجها، ولا بد ستتراجع سوية الخدمات العامة لدرجة كبيرة، وهذا يعني زيادة التركيز على قضية المهاجرين الذين يشكلون العبء الأكبر على ميزانيات الضمان الاجتماعي، فتأتي ظاهرة الانعزال والتشدّد الإسلامي لتحرّك المشاعر العميقة بالخطر الوجودي عند الفرنسيين، الذين يتجهون جملة لخوض صراع مع العدو الداخلي الذي صار يمثل التهديد الأخطر من وجهة نظرهم.


سبق لفرنسا أن احتلّت شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وأصبحت إمبراطورية عظمى بفعل ذلك، لكن هذا الجنوب والشرق أصبح هو الخطر الآن على فرنسا، وهو من يقوم بغزوها، فقد حصل معها نفس الشيء الذي حصل مع الشعب الفلسطيني، عندما تزايدت الهجرات اليهودية، وهذا هو التفسير العملي لآية (ويمكرون ويمكر الله)، فأوروبا كلها تشرب من ذات الكأس الذي سقت منه الشعب الفلسطيني، والتي بالأمس سعت بقسوة لطرد اليهود منها، عادت لتستقبل اللاجئين العرب والمسلمين على أمل أن تغطّي تكاليف صناديق التقاعد مع تزايد الضغوط عليها، بسبب عدم نمو السكان وتدنّي نسبة الشباب المنتجين مقارنة بلهرمين المتقاعدين، لكن تلك السياسة على ما بدا أخيراً كانت قصيرة النظر، فالانهيار أسرع كثيراً، والأسباب ليست فقط في نسب الفئات العمرية ، بل في تدني مردود التبادل غير المتكافئ الذي كان بسبب التفوق التكنولوجي، وبظهور الصين والمنافس الشرقي، لم تعد هناك دماء تضخ في شرايين الاقتصاد الأوروبي الهرم، الذي بدأ ينهار ويهرب لللجان الضريبية، والذي تخلّى أيضاً عن دعم اليمين سياسياً بعد أن فقد الأمل في البقاء في تلك الدول التي تتجه وبسرعة نحو الإفلاس، بعد أن وصلت نسبة التضخم ١٠٠ ٪ في هذا العام فقط.


الأزمة الاقتصادية البنيوية التي تعصف بأوروبا، عموماً، وبفرنسا، خصوصاً، لا تجد تعبيرها السياسي كصراع بين أحزاب تمثلها وتعبر عن تمايز مصالح الطبقات، فالكل قد أصبح طبقة واحدة تتعيش على مساعدة الدولة، والدولة تعلن بشكل متزايد عجزها عن القيام بدورها، وبالتالي تطفو على السطح القضايا الثقافية بدل الاقتصادية، وبالنيابة عنها، وبشكل خاص اللاجئين، والمهاجرين، والدين الإسلامي الذي يهدّد الهوية.


ما نراه اليوم من صراع بين ماكرون والإسلام، هو فقط ما يظهر من جبل الجليد، فالجبل أكبر بكثير مما يظهر ومما يبدو عليه، والحرب والصراع مرشح للتفاقم، وسوف نشهد المزيد من الجولات بين المهاجرين واليمين في أوروبا، لذلك نقول للسوريين الذين بالكاد وصلوا أرض أوروبا (اربطوا الأحزمة).


ليفانت – د. كمال اللبواني

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!