-
السهل والجبل و"كورونات" الفتنة
إذا كان التاريخ المكتوب حمّال أوجه وقابل للتأويل والتفسير، أو التزييف والتحريف، لكن ذاكرة الناس حية لا تموت، ترصده جيداً وتنقله من جيل لآخر قيمة وتحافظ عليه قولاً وفعلا. وإن كانت مظاهر الفيروسات الكورونية المستحدثة في وجود البشر تشلّ حركتهم اليوم وتقطع تواصلهم، لكن معالم وجودهم وحضورهم القيمي والوطني أقوى وأشدّ مناعة من تسلل الفيورسات العابثة فيما بينهم.
السهل والجبل وقصة ذاكرة لا يمكن أن تتقادم بالنسيان أو أن تلغي حضورها بضع من مركبات السمّ المنتجة والمصنّعة في الأقبية المظلمة لبثّ الفتنة والتفرقة وتخريب النسيج المشترك التاريخي، خاصة وأواصل الترابط لم تنفك عراه يوماً، رغم كل ما يجري طوال الأعوام التسعة السورية السابقة، ورغم كل نماذج الكورونات المستحدثة لزعزعة هذا التاريخ:
- كورونا الفتنة الطائفية بين الأهل، عبر التأليب الإعلامي المجير من قبل أيادٍ خفية، لا يطول زمن كشفها أمام أصحاب التاريخ الوطني المشترك من أبناء وشرفاء وعقلاء المنطقة، والتي لم تتمكّن لليوم من الحيلولة أمام التواصل والتفاعل المتبادل بينهم، ولازلنا نذكر جيداً كيف تم كشف من بثّ التسجيلات أوائل 2011 التي تحرّض أهالي درعا على الموظفات العاملات من السويداء فيها واتهامهم بالكفر، ليتبين أنه صنيعة غرف المخابرات وغرضه بثّ الفتنة بين الأهل.
- كورونا عصابات الخطف التي انتشرت بحكم الفوضى والعمل على تأجيجها، والموثقة عند أصحاب الشأن، والتي يقوم بها مجموعة من المارقين الخارجين عن القانون أصلاً، والأعراف والتقاليد الحميدة المشهود لها في المنطقة. عصابات الخطف هذه التي تنكّل بالجاريين سواء وتقوم على بيع المخطوفين لبعضهم بغية الابتزاز المالي والاتجار بأمان الناس ورزقهم من سيارات وأراضي وغيرها، هذه العصابات ومشغلوها الخفيون هم المستفيدون لليوم من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.
- كورونا الاستقواء بقوة السلاح وتغليب حكم القوة العسكرية على قوة العقل والسياسية، وتراجع كلمة أصحاب التاريخ المشترك أمام فورة انتشار السلاح العشوائي وحكمه بأمر الواقع، والأدهى من هذا وذاك استقدامه للأجندات الخارجية روسية و/أو إيرانية، والتي تلعب على تشتت وحدة الصف وفرض الهيمنة نتيجة ذلك تحت عنوان قديم للاستعمار مفاده "فرق تسُد".
لليوم في كل من الجبل والسهل، لم تنفك تلك الكورونات الدخيلة على تاريخه من محاولة العبث بوحدته منذ أيام الفرنسيين، ومحاولاتهم فرض السيطرة على ثوار الثورة السورية الكبرى في الجبل، عبر وعد قدم لشرفاء حوران السهل وقتها باستقلاله ذاتياً ، من آل الحريري والزعبي والمحاميد والراعي وغيرهم، مقابل منع ومحاربة ثوار الجبل، لكن الذاكرة الجمعية لسكان المنطقة تقول بأنّ ردّ أهلها وقتها، ومن صفحة (حوران أم الدنيا) وعلى لسان إسماعيل الحريري: أهل الجبل أهلنا ولهم حق جوارنا وعلينا حفظه وصونه، وحوران جزء من سوريا لا نوافق على استقلاله، وليست بعيدة عن الذاكرة أبداً تشارك وتشاور عقلاء المحافطتين بشكل دائم لمنع الفتن وفك المخطوفين ما استطاعوا إليها سبيلا.
اليوم ثمّة حدث دامٍ اجتاح المنطقة بأحداث الجمعة 27/3/2020 والذي راح ضحيته 15 شاب من أبناء القريا في جنوب غرب السويداء، على يد عناصر أو دوريّة من الفيلق الخامس، الموقع على مصالحة مع قوات الجيش النظامية وبرعاية روسية مباشرة، ما خلق حالة من التوتر والتصعيد بلغة الخطاب والبيانات المتباينة بين كل الأطراف الفاعلة عسكرياً في المحافظة خاصة حركة رجال الكرامة، وهذا ما قد يغلق الأبواب أمام أصوات العقل والحكمة والعمل السياسي. فحيث لا يكفي أبداً مبرر للفيلق الخامس أن محرك الحدث هو عمليات الخطف التي قام بها أحد المارقين من أبناء القريا، والذي فجر نفسه بقنبلة حين حاول الأهالي القبض عليه يوم الحادث المشؤوم، فالاستقواء بقوة السلاح واجتياح حق الجيرة بهذه الطريقة يقوض كل الجهود الساعية لحل مسائل الخطف وعمل المارقين هؤلاء من كل الطرفين. وأيضاً لا يمكن الاكتفاء بتصعيد عسكري مقابل ضد الفيلق الخامس مع عدم محاسبة الخاطفين المندسين بين ثنايا مناطق السويداء تقوم بخطف كل من يمكن أن يكون معه مال لابتزازه من كلا المحافظتين.
إن من مصلحة أبناء الجبل والسهل تحكيم العقل والتاريخ المشترك، والاتكاء على قيم وعادات نبيلة تشكل آليات مقاومة شعبية ورصيد وطني تعمل على كشف العابثين من كلا
الطرفين فيه، من خلال:
- تحميل الضامن الثلاثي الروسي الأمريكي الأردني المسؤولية السياسية عن استقرار الجنوب سياسياً وذلك كونهم الموقعين على اتفاقيات خفض التصعيد في عمان 2017.
- الابتعاد عن لغة التصعيد العسكري من كل الأطراف، والتي هي بمثابة فتيل قابل للاشتعال من قبيل الأصابع الخفية العاملة على تفريق وتمزيق وحدة السهل والجنوب، ما يسمح بفرض سطوة عسكرية ومن خلفها شروط سياسية على كلا الطرفين، كنا قد أشرنا لها بطريقة جيوعسكرية تمارسها روسية تحت عنوان الترهيب بالقوة العسكرية بغية الحصول على مكاسب سياسية تغنيها عن المواجهة المباشرة التي تمارسها في الشمال السوري.
- فتح المجال لأصحاب الحكمة والتعقل والرأي السياسي لعمل مصالحات شعبية وأهلية تقوم على معالجة نقطتين محددتين:
الأولى، مسؤولية الفيلق الخامس بما يمثله عسكرياً وسياسياً ومن خلفه الضامن الروسي عن أحداث الجمعة الدامية في القريا وتحديد المسؤولين عن الحدث بأشخاصهم، وكيفية حلها بالطرق المعهودة قيمة وأعرافاً.
الثانية البحث في موضوع الخطف والخطف المتبادل وتسمية أفراد عصاباتها بالاسم بعد التحقيق والتوثق من هم في كلا المحافظتين، على أن تعمل كل جهة من طرفها على إيجاد الطرق المناسبة الأهلية والقانونية لإيقافهم عن التغول في أعراض وأموال الآمنين من الأهالي.
- تشكيل لجنة متابعة دائمة تعمل على تقديم موضوعي الاستقرار والأمان كركائز عمل وطنية تمثل نواة تشاركية مستدامة بالهم الوطني، والكشف عن الأصابع الخفية التي تعمل على تخريبه، وتمتين أواسط التقارب المدني والأهلي والسياسي وفتح بوابات الحوار العلنية بين جميع الأطراف في المحافظتين، بغية الوصول لتعاقد اجتماعي يوثق ويمتّن علاقة أبناء الجوار ببعضها.
إنّ البحث في عقد اجتماعي سوري وطني ينتج عنه دولة الحق والقانون والدستور يمكن تلخيصه في مقولتي الأمن والاستقرار، وهو ما يفتح خلفه بوابات عريضة للكرامة والحرية والقانونية وكل أشكال العمل المدني والسياسي المنتج، تلك المفاهيم التي يدفع لأجلها السوريين لليوم ولتسع سنوات مرت ما لم تدفعه أمم في حرب عالمية، وما استبدالها بالفوضى والنعرات الطائفية والاستقواء بقوة السلاح، وبطرق خفية لليوم، لمنع تحققها، وبالتالي فرض سطوة جيوعسكرية على الجميع، وذلك حين يصبحوا جماعات وأفراد متحاربين متخاصمين، تسهل السيطرة عليهم منفردين، وهذا ما على أبناء السهل والجبل وعيه واستيعاب دروسه السابقة بدقة وحرص من كل الأطراف، سياسياً ومدنياُ وعسكرياً وأهلياً ودينياً واجتماعياً.
هي ذاتها معادلة التفريق بالقوة تعمل عليه لليوم ذات الكورونات بين السهل والجبل ما قد يؤدي إلى ما تحمد عقباه، أو عقد اجتماعيّ بالتراضي ووحدة المصلحة والتاريخ يبثّ معنىً وطنياً لكامل سورية التي مزقتها ذات الكورونات ومفاعيلها.
ليفانت - جمال الشوفي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!