الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
البرغماتية فلسفة في تدبير الأزمات
أحمد شحيمط

البرغماتية كما نفهمها بالمعنى الفلسفي أنها فلسفة عملية تبلورت في سياق فكري يعيد الاعتبار للتجربة الذاتية في مقابل الأفكار المثالية، والمعارف الحالمة البعيدة عن الواقع المادي ، الشيء الصحيح هو الذي ينبغي فعله، والحقيقة تكتسب بناء خلى خطة يرسمها الإنسان، تكون واضحة المعالم والنتائج، أي الحقيقة مجرد منهج للتفكير، والمنهج محدد بالقواعد والأسس، عندما تنطلق الأفكار من الذات، وتعبر عالم الوقائع، تنجز عملها وتنتهي بالمنافع والمصالح المهمة، التي تعود على الفرد والمجتمع بالخير العميم، فالخطاب البرغماتي موجه نحو إعادة تصويب الحقيقة، والنظر في مرامي المعرفة باعتبارها خطة ووسيلة، العمل مقياس الحقيقة، ما تجلبه من الضرر والنفع، ضد الحقيقة المطلقة والأفكار الجامدة، فلاسفة أمريكيون وانجليز نحتوا مفهوم البرغماتية ، التي تأثرت بأفكار النفعية الانجليزية، ورواد الفكر التجريبي، وشذرات الفكر السفسطائي عن دلالة الإنسان واكتسابه للفضائل العملية ونسبية الحقيقة، تشارلز بيرس صاحب الفكرة، والتي أخذت من المعنى اليوناني "براغما" وتعني العمل، وبالمعنى الروماني المتمرس بالقانون ، وفي تطوير الفلسفة عند وليام جيمس تعني الخبرة والتجربة، وصلاحية الأفكار المطابقة للواقع المادي، جوهر الفلسفة العمل والمنفعة ، والتطابق بين النظرية والتجربة بالمعنى الواسع، لأن الفكر البرغماتي يستمد مرجعيته من تيارات مختلفة، كالوضعية والنقد للفكر العقلاني والمثالية، تستمد كذلك من الأفكار التجريبية خصوصا هيوم وجون لوك، رفض مبرر للتفكير الإيديولوجي، الذي ينادي بالمبدأ، بينما التفكير البرغماتي يقدم المصلحة على المبدأ، ولا يبالي بالمثالية والطوباوية، والحقيقة المطلقة ، ولا يفصل بين المصلحة الخاصة والمصحة العامة، كما يرفض التسلط والشمولية، والفكر المنغلق على ذاته، والمذاهب الأحادية الرؤى .


يأخذ بالأخلاق العملية والنفعية وليست الأخلاق المثالية، ولا تؤمن هذه الفلسفة بالفكر الدوغمائي الذي يلتف على الحقيقة، ويقدم نفسه كيقين قطعي، البرغماتية العملية كما صاغها جون ديوي كذلك في المجال الاجتماعي، يمكن تصديقها والعمل بالأفكار التي تنتج لنا منافع مهمة في تطوير المجتمع، وإصلاح أعطابه، إنها بالفعل فلسفة تدبير الأزمات، والنأي عن الأفكار غير البناءة في الرفع من كفاءة الفرد وقدرة المجتمع في تدبير شؤونه، تدبير الأزمات يعني الإقرار بالمشاكل، وما يعانيه الناس من صعوبات في مجال الأداء والرفع من المردودية في تحسين وضعية الفرد ونواقص المجتمع من ديمقراطية وحريات وعدالة اجتماعية ومكاسب التنمية،  أما التصورات للعالم والواقع فلا تستند على رؤى خيالية ومثالية، ولا يمكن قياس الأفكار مستقبلا إلا بالنتائج المثمرة .                                


الفيلسوف البرغماتي لا يهتم بالتصورات المستقبلية من قبيل ما تدعي الماركسية في نهاية الرأسمالية، واختفاء الملكية الخاصة، وصعود والبروليتاريا، أو ما تدعيه العقلانية من إحلال العقل وسيادة العقلانية، ولو كانت في مضامين الأفكار ما يتعلق بالمحاسن في إعمال العقل في الاستنتاج والبناء للفكر. الأخلاق نسبية، والدين تجربة ذاتية جوهرها العاطفة الدينية، وليس الطقوس والعادات، اعتقادنا في صوابية الأفكار والمعتقدات مقياس ذاتي صرف من خلال تجربة الشخص الباطنية، ولا شيء يفرض بالقسر والإكراه ، إن كانت البرغماتية فلسفة عملية في التدبير إلا أنها تلونت بآراء متباينة، بين الرفض والتقليل من قيمتها، واعتبارها من جهة أخرى فلسفة للهيمنة والسيطرة، واختزال الناس في المنافع ، من منطلق الغاية تبرر الوسيلة كفكرة تجلب الضر للآخر بشتى الوسائل بدافع المصلحة، يعني تسللت البرغماتية للسياسة، وتحولت من فكرة للتبادل الايجابي للخيرات والمنافع إلى فلسفة للسيطرة والاستحواذ على خيرات الآخر، وخير الأمثلة، الهيمنة الأمريكية على الشعوب، عندما اجتمعت الميكافيلية مع البرغماتية، ساهمت هذه الوحدة  في تشويه مبادئ البرغماتية، فتحولت السياسة عن مسارها في إقامة علاقات منفعة متبادلة، لكن البرغماتية عندما قدمت نفسها كفلسفة عملية، حالفها النجاح في التعميم للخيرات، والتبادل المعقول للمصالح، مقياسها الحكم على فكرة سواء كانت خاطئة أو صائبة في مدى نفعها وتطابقها مع الواقع العملي، المنفعة التي تجلبها الفكرة مقياس للحقيقة، والتجربة الخاصة بالفرد في تغيير الأشياء، ومدى تطابقها مع الواقع من المعايير المهمة للحقيقة ، شكوك البعض في البرغماتية مرده للسياسة الخارجية الأمريكية في انتشار قواعدها العسكرية، واختزال الشعوب في سوائلها ومواردها الطبيعية .                            


 لا تبحث عن الأفكار في عالم المثل، ولا تعني الحقيقة الإطلاقية، وليست هناك مقولات ثابتة، ومبادئ صورية، كل الأمور تقاس بالتجربة الذاتية في غمار الوقائع المادية، وعندما نمتلك الفكر الصحيح، فنحن نمتلك القدرة على تغيير عالمنا، وينعكس التغيير على السلوك والفعل، وبالتالي الأفكار التقليدية، والأمثلة الموجهة للناس من الماضي صالحة لذلك الزمان، أما مقياس الحقيقة اليوم ما ينفعنا، ويأتي لنا بالمفيد، وما يكون صائبا لأعمالنا وسلوكنا، وليست الحقيقة غاية في ذاتها، وليست الأخلاق مطلقة أو القوالب الفكرية ثابتة، إننا نسعى للتدبير الخاص لأمورنا وحياتنا  بناء على نعيشه من أزمات وصعوبات، ونحتاج بالفعل إلى فلسفة عملية حتى نعيد للحياة طبيعتها ، يعني اكتساب مناعة فكرية أمام إكراهات الحاضر، والتفكير مليا في المستقبل، شارل بيرس استمد فكرة البرغماتية من أفكار الفيلسوف كانط ، من العقل الأخلاقي العملي، ومن صدق المشاعر والنوايا اتجاه الإنسان في بعده الفكري النفعي، ومن مزايا الأخلاق النبيلة، وليس من الواجب الأخلاقي المطلق، أخلاق التفاؤل في النظر إلى الشخص ليس غاية في ذاته، بل الشخص بفكر واقعي يروم المنفعة للجميع، والتي تعتبر مدخلا للسعادة والعدالة الاجتماعية معا، بعيدا عن الفكر الغارق في الميتافيزيقا، المشاعر هنا غير منفصلة عن العمل والواقع، الفكر البرغماتي عملي نسبي وزمني، ينطلق من الممكنات المعقولة، ويشيد أفكارا صلبة ومفيدة للفكر والسلوك معا ، الفعل الإنساني منفتح على ممكنات تعزز قدرة الإنسان على الاختيار لما هو صائب وهادف في تطويع الواقع، وتغيير الحياة نحو الأفضل، نجاح الفرد، يعني نجاح العالم، وتدبير الأزمات نحو الحل، والإقلاع أفضل السبل للسيطرة على الخلل الذي يصيب المجتمع في مكوناته ويعجل بنهايته ، العالم يستعصي أن يكون بعلاقات ثابتة ونهاية ، والأفكار لا يمكن أن تصبح حتمية، ننطلق من التجربة الذاتية والعملية، ونتجاوز الماضي بالأفكار التي كانت عائقا في تكبيل الحرية الفردية في الإبداع والاختيار، ونلقي بالفكرة ونوجه الفكر نحو المستقبل، إذا ثبت صلاحية الفكرة ومدى نفعها، نزيد في تطويرها والعمل على تنزيلها على حالات معينة، وهكذا نلمس البرغماتية في العمل السياسي، ومعالجة الاختلال الناتج عن قرارات عشوائية، لا تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الواقعية والآفاق المستقبلية ، الفرد مركز الأشياء، ولا قيمة للأفكار في بعدها النظري، بل التفكير العملي الذي يأتي بالنتائج النفعية، والأخلاق عموما مبنية على الإلتزام والتفاؤل والحرية ، صدق الأفكار ومصداقيتها في التنفيذ، من المعايير المهمة في الحياة ، هكذا يمكن اعتبار الفلسفة البرغماتية بروافدها المتنوعة نتاج للتفكير الحر والعملي في سياقات متنوعة .                                       


العقل العربي الذي لا زل مكبلا بأعباء الماضي والتقاليد الضاربة جذورها في التاريخ، والمترسخة في بنية التفكير، مطالب أن يعيد النظر في ذاته، وفي القرارات المصيرية، عندما ينفك هذا العقل من المحددات المطلقة، ما يتعلق بالهوية والآخر، الأصيل والجديد، العقل السياسي العربي بالذات يحتاج للتأصيل والتفكيك، انتشال السياسة من المثالية، وتمكين العقل من تجارب جديدة للمناورة والجدل في سياقات متنوعة، يمكنه أن يعيد الأفكار، ويصوب التفكير نحو المستقبل، الدولة القُطرية الجامعة لكل أطياف ومكونات المجتمع مطالبة أن تلبي تطلعات الناس في امتلاك الأفكار الصحيحة والصائبة، أزمتنا مركبة، من النفسي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، بنية التفكير ثابتة، عندما يصد التفكير المنغلق كل نزعة تحررية تمس الفرد والتقاليد، ولا تريد النظر للمستقبل البعيد من خلال الحقيقة النسبية، وصدق النوايا والمشاعر التي تهدف للتنمية، والرفع من كرامة الإنسان وحقه في تطوير ذاته، لا تساير الأفكار إيقاع العالم في التنمية. البرغماتية السياسية أداة فعالة في الحفاظ على مكاسب الجماعات والكيانات، دافع التفكير في المستقبل البعيد يجزم الدول في استلهام مضمون الفكر البرغماتي، وإعادة صياغة السياسة وفق أهداف ونوايا آنية وبعيدة المدى، العقل السياسي العربي بالمحددات التي صاغها الجابري، وغيره من المثقفين العرب لا زال مقيدا بأساليب تقليدية رغم صحوة الناس واعترافهم بالحاجة للفهم وتتبع مسار التطور الحضاري، طريق شاق من العمل يجعلنا نسعى لامتلاك الفكر الصحيح الذي يقود الشعوب نحو الصناعة والفلاحة والتنمية الشاملة، التي تشمل الإنسان في بعده الفكري والنفسي والأخلاقي، كما بين ذلك المفكر مالك بن نبي في محدداته الأساسية للنهضة: الإنسان والتراب وتدبير الزمن، من منطلق التفكير في حضارة الغرب، واقتباس المفيد منها دون تبعية عمياء .      


أحمد شحيمط                                                       

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!