-
الأحزاب الشموليّة وثقافة القطيع
شهدت بعض ثورات الشعوب على الظلم والاضطهاد اضطرابات وإخفاقات كبيرة في مسيرتها؛ ناتجة إما عن ميراث نظامها الاستبدادي القديم، أو بسبب التحوّل السريع والمفاجئ للمجتمعات إلى الحالة الثورية.
غالباً ما كانت تفتقر هذه الشعوب أو المجتمعات إلى ثقافة الوعي السياسي المنفتح خارج قوقعتها الأيديولوجية السياسية أو الدينية المذهبية التي فرضت عليهم طوال عقود من الحكم الشمولي الديكتاتوري، وإزاء هذه الحالة وسط المجتمعات التي تريد الحرية بأي ثمن، تفقد ثورتهم قيمها الحقيقية، ويصبح المجتمع بين خياري الحرب الشاملة، أو التنازل عن حريته مقابل الأمن والاستقرار والسلم الأهلي، وتصبح كل ثورته مختزلة في أيديولوجية أحادية، أو كتلة سياسية ضيقة تفشل في الحفاظ على القيم الوطنية وتحقيق مقاصدها في الحرية والديمقراطية ودولة القانون، وترتد إلى استبداد جديد، كما حدث في الثورة الإيرانية والكوبية سابقاً وثورات الربيع العربي لاحقاً.
في سوريا، يبدو أنّ لعنة ثورتها كانت أشد وطأة على شعبها، مرة لأنها ضد نظام همجي دكتاتوري وحشي مُسند من قبل دول إقليمية ودولية عدة، وأخرى لوضعها أجنة مشوّهة وهجينة من أحزاب ومجموعات سلطوية فاسدة ومفسدة في تركيبتها البنيوية. وضمن مناخ تفشي غياب الوعي والإدراك والمعرفة المجتمعية بأصول هندسة الحراك الثوري والتظاهر السلمي من أجل تحقيق أهدافه، اعتلت قوى ومجموعات أيديولوجية سياسية ودينية المشهد العام، وصادرت الثورة وقيمها الديموقراطية لنفسها وخدمة لمصالحها. ولأنّ الوعي في مجتمعات دول المنطقة مرتبط مباشرة إما بالسياسة أو الدين، عملت هذه الأحزاب والمجموعات القمعية ذات الأحكام التعسفية، والتي سعت للهيمنة على السلطة في مناطق خارج إرادة مجتمعاتها، وبدعم داخلي أو خارجي، على تعبئة الشارع بخطابات ثورية في غاية الشعبوية والفجاجة والسلبية، واستمرت بحقن التخدير الشعبوي للمجتمعات حتى أفرغت عقول أبنائها من الوعي والإدراك، وحلّ محلها "ثقافة القطيع"، حيث أصبح الرجوع عنها، أو التفكير خارج هذه الثقافة القطيعية، ردّة ثورية أو خيانة لمبادئ الثورة ودماء الشهداء.
ما تزال هذه الأحزاب والمجموعات السلطوية مستمرة في إفساد كل القيم الوطنية والأخلاقية والتعليمية في مجتمعاتها، لإدراكها أنّ وعي الفرد الذي يولد من العقل وينشأ خارج ثقافة القطيع أكبر تهديد لها، ويضمن بذلك إلى حدٍ ما خلق جيلٍ وجيشٍ من المريدين والجهلة الأميين الغارقين في وحل الشعبوية والانسياق خلف راعٍ لا يُجيد إلا فن الشعبوية، إما بأيديولوجيات سياسية أو دينية مذهبية، ولم يعدّ هؤلاء الجهلة يصدقون نفسهم حتى ولو توفرت بين أيديهم كل الحقائق والقرائن التي تثبت حجم الخداع الذي مورس عليهم، ويكشف الضباب الظلامي الذي حجب رؤية الحقيقية عنهم، وباتوا يحملون رؤوساً فارغة لا تحوي إلا مفرزات متقيّحة من النظريات والأيدولوجيات والشعارات الجوفاء، لا تصلح وتخدم إلا أجندات هذه القوى وتحمي مصالحها ووجودها.
بعد مرور حوالي عقد من الزمن على المأساة السورية، ما زالت هذه الأحزاب الأيديولوجية والمجموعات السلطوية غارقة في حصد النكبات والخيبات لمجتمعاتها، ويكاد لا يخلو قطاع إلا وأحلّوا نكبة فيه، من نكبة التفكك الأسري والقيم الأخلاقية مروراً بنكباتٍ في التعليم والثقافة والمبادئ الوطنية واحترام القانون وحقوق الإنسان.
هذه المنظومات أتلفت بأيديولوجياتها السياسية والدينية كل المحاصيل المجتمعية، وحولت المدارس والجامعات والمعاهد إلى معسكرات لغسل الأدمغة والعقول، والصالات الثقافية إلى أماكن للاعتقال والاختفاء القسري، والنوادي الرياضية إلى أماكنٍ للاحتفال بالحزن على سقوط ضحاياه، وأقصى ما قدموه حتى الآن، هو التأسيس لثقافة القبور، وثقافة خلق الأعداء، وثقافة الاحتفال بالهزائم، وثقافة التحشيد في الشوارع وإقامة الحدّ ضد هذا الطرف أو ذاك بمناسبة أو دونها، ببساطة هؤلاء نجحوا في "تخريف المجتمع" وسطوا على كل قيمه النبيلة.
باعتقادي، الوعي هو القائد الحقيقي لقيادة الشعوب إلى الانتصار في ثوراته السياسية والاجتماعية والثقافية، وكلما انعدم هذا الوعي ابتعدت الشعوب عن تحقيق أهدافها، وأصبحت أسيرة الأيديولوجيات السياسية والدينية التي يتغذّى عليها المتجبّرون والمتسلّطون ذوي النزعة الشمولية، والشعب السوري بكافة مكوناته بات اليوم بحاجة إلى لفظ هذه الآفات الممرضة التي وقفت أمام إرادته في التغير والتعبير عن نفسه بحرية وكرامة، ولا سبيل لذلك إلا بالتصدّي لكشف عورات هؤلاء، والتحرر من تلك القيود الأيديولوجية التي فرضت عليه وجلبت له الويلات وزادت من مآسيه في التجويع والترهيب والقتل والاختطاف واحتكار الموارد المادية والحصار إلى جانب كل الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها النظام بحقه.
ليفانت - عبد الوهاب أحمد
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!