الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
استراتيجيةُ القَنصِ الدفاعيّة
عبير نصر

منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وصحافةُ النظام السوري تسيرُ وفق خطّ بياني ثابت، وحافظَ المتنُ الصحافي على بيروقراطيةِ الشكل، والصياغة، كما حافظتِ العناوينُ الرئيسة على النبرةِ الخطابية مبرزة شعارات المرحلة، وأخبار رأس النظام وصوره، فيما ظلّت زوايا الرأي متجمدة، تسهب في الشرح والتحليل، وإطارها العام أكبر قدر من التطبيلِ، والهيصة الاحتفاليّة بالانتصارات. استراتيجيةُ 


مهما بلغت فجاجةُ عبثيتها ودجلها، واستمرار فرضِ القيود الصارمة على حرية التعبير، أدّت إلى توجيه التّهم، ومحاكمة نشطاء، وسياسيين سوريين، واعتقالِ العشرات من الكتّاب والصحفيين على خلفيّة كتاباتهم، أو استخدامهم الإنترنت كوسيلةٍ للتواصل، والمعرفة، في الوقت الذي ما يزال فيه المشهدُ الإعلامي واضحاً، ويمكن حصره وتحديد معالمه بسهولة، إذ يوجد في سوريا بالإضافة إلى وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، والصحف اليومية الرسمية الثلاث، بعضُ وسائل الإعلام المطبوعة، وللقليل منها توجّهات سياسية، وينطبق الشيءُ نفسه على القنوات الإذاعية والتلفزيونية، التي تُستخدم قبل كلِّ شيء للترفيه والتسلية، وليس للنقد، أو الإصلاح والتغيير.


ووسط هذا الواقع المأساوي، كان لشبكةِ الإنترنيت دور جوهري في إيقاظ الشعب من غفوته، باعتبارها مصدراً للمعلومات، ومنبراً للتعبيرِ، وتنفيسِ الغضب المكبوت منذ عقودٍ طويلة، إلا أنَّ النظام السوري حاول منع ذلك بمختلف الوسائل، بالإضافة إلى إخضاع الصحفيين الذين يكتبون على شبكة الإنترنت للرقابة، لينتهي المطافُ بالمدوِّنين في السجن، كما فرض القانونُ على أصحاب مقاهي الإنترنت تسجيلَ أسماء الزبائن، وأرقام بطاقاتهم الشخصية، فالحكومةُ تراهن، قبل كلِّ شيء، على الآثارِ النفسيّة، وذلك بسبب استحالةِ فرض السيطرةِ الكاملة على شبكة الإنترنت، ولأنَّه من السهل تقنياً تجاوز الحجب المفروضةِ على بعض المواقع، فتسجيلُ بياناتِ الزبائن، تعملُ على إرباكهم، وجعلهم يعتقدون أنَّ هذه الوسيلة فعَّالة في مراقبة الشبكة العنكبوتية.


وأشار بيانٌ (من أجل صحافةٍ حرّة وصحفيين أحرار)، الصادر عن لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، إلا أنّه تقوم كلّ من (الجمعية السورية للمعلوماتيّة) و(المؤسسة العامة للاتصالات) بالتحكّم بشبكة الإنترنت، وتضمّ قائُمتها السوداء عشراتِ الآلاف من المواقع الإلكترونية الإخبارية، والإنسانية، وسواها، خصوصاً تلك التي تكون سوريا في دائرة اهتمامها، ولم يتوقّف الأمرُ هنا، فالقرار الذي أصدرته وزارة الاتصالات، والقاضي بإقرارِ العملِ بنظام باقات الإنترنت، حسب الاستهلاك، يقضي على آخر ما تبقى للسوريين من متنفّسٍ لحرية التعبير، و(فشّة الخلق)، وحتّى التسلية، كأنّه يعودُ بالزمن إلى حقبةِ الثمانينات الذهبية، عندما كان الحجبُ والتعتيم من الأمور البسيطة في ظلّ تقنيات ذلك الوقت، ومع صعوبة عزلِ البلاد بالكامل عن الشبكة العالمية، أو فرض حجبٍ تقليدي على المحتوى الإلكتروني غير المرغوب، يبدو حلُّ الباقات مثالياً بالنسبة للنظام.


والمشكلةُ الأساسية ليست في الحظر أو التقنين، بينما يعاني الإنترنت في سوريا من ضعفٍ ملحوظ منذ بداية تشغيل المخدّمات، ويضطر المستخدمون للانتظار فترات طويلة لتحميل مقطع فيديو صغير مثلاً، ويعزو مسؤولو النظام سوءَ الخدمة في البلاد، أحياناً لقصصٍ خياليةٍ ومضحكة، كأسماكِ القرش في البحر المتوسط، التي تتسبّب بالانقطاعاتِ المستمرّة في الخدمة، ويعود ضعفُ الانترنت (فعلياً) لأسبابٍ تقنيّة متعلّقةٍ بسوء البنيةِ التحتية الخاصة بالشبكة، وأخرى سياسيةٍ عندما يرى النظام حاجةً في خنقِ المساحة الضئيلة للتعبيرِ، والتي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي، ومن المثير للاهتمام أنّ عداءَ النظام السوري للإنترنت قديمٌ، فرغم أنّ الإنترنت دخل البلاد في أواخر التسعينيات، إلا أنّ الوصول إليه كان مقتصراً على الهيئات الحكومية، وحتى العام 1999 لم يكن يُسمح للمواطنين السوريين الاشتراك بشبكةِ الإنترنت.


ورغم هذا الواقع المأساوي، وفي سبيلِ الدفاع الاستباقي عن عرشه المقدّس، من الطبيعي أن يقومَ النظامُ السوري بإعادة التهديد (بـالجريمة الإلكترونية) كتهمةٍ جاهزة، في سبيلِ قنص الأصوات التي ارتفعت في الآونة الأخيرة، ضدّ الخراب المستشري في البلاد، حيث كبرتْ قائمةُ الأسماء الموصوفة بالفساد في نظامه، بحسب صفحات مواقع التواصل، ووصل الأمرُ إلى اتّهام مستشارة الأسد، (بثينة شعبان)، بالفساد، الأمر الذي دفع بالسلطاتِ الأمنية، مجدداً، إلى إشهار سيف (الجريمة الإلكترونية) بوجهِ كلّ من تسوّل له نفسه انتقاد النظام وأعوانه.


وفي التفاصيل، أصدرتْ وزارةُ الداخلية، بياناً، على حسابها الفيسبوكي، تهدّدُ فيه باعتقالِ، ومحاكمةِ، وحبسِ (روّاد مواقع التواصل الاجتماعي) إذا تفاعلوا، أو تواصلوا، مع (صفحاتٍ) وصفها البيانُ (بالمشبوهة)، أو إذا تمّ تزويدُ تلك الصفحات، بـمعلوماتٍ أو بياناتٍ، أو نشرِ وتداولِ، ما سُمّي، بأخبارٍ كاذبةٍ، حتى لا يتعرّضوا للمساءلةِ القانونية، بتهمةِ إضعافِ الشعور القومي، الذي من شأنه أنْ يوهنَ نفسيةَ الأمة، ومن المؤكد أنّ المقصود به هنا، أيّ معلوماتٍ لا يريد النظامُ تداولها، وتحديداً المواضيع المُحرجة أمام بيئته الداخلية، والتي لم يعدْ وصفها بالأخبار الكاذبة كافياً لتفنيدها، بما في ذلك صور الذلّ اليومي للسوريين على طوابير الانتظار، للحصولِ على متطلبات الحياةِ الأساسية كالغاز، والمحروقات، والمواد الغذائية البسيطة، كالأرز والسكر والشاي، وصولاً للصورِ ومقاطع الفيديو التي توثّق انتهاكات النظام المتعدّدة لحقوق الإنسان ضمن الحياة اليومية، وليس انتهاء بالموادِ الإعلامية والأفلامِ والمسلسلات التي تعطي حيّزاً للمقارنة بين ما يعيشه السوريون، وبين بقيّة البشرِ على الكوكب.


وجاء بيانُ الداخلية بعد موجةِ غضبٍ عارمة، أطلقها المؤيدون على مواقع التواصل، من تدهور الأوضاع الاقتصادية، وإساءة استعمال السلطة، حيث تحوّلتِ المدنُ الساحلية التي احتضنتِ النظامَ وقدّمتْ له الغالي والنفيس، إلى أرضِ المستائين والمحتجّين، الغاضبين بسبب تفشّي الفساد الذي يسحبُ حتّى لقمة العيش من فم الجائعين، وكانت طرطوس قد صدّعت رأس النظام، في الآونة الأخيرة، إثر تشكيلِ مجموعةٍ ناقدة على فيسبوك، أطلقوا عليها اسم (مواطنون مع وقف التنفيذ) وقام النظامُ بتوقيف مدير الصفحة، الناشط (يونس سليمان)، بإيعازٍ مباشر من محافظ طرطوس، بحسب ما أقرّ، هو نفسه، لصحيفةِ (الوطن) شبه الرسمية، وعبّر العشراتُ من الناشطين عن غضبٍ شديدٍ من تركِ من يدهسِ السوريين، حرّاً طليقاً، واعتقالِ من ينتقد الفساد ويتألّم من الجوع، في إشارةٍ منهم، إلى قيامِ (ألين سكاف)، زوجة ابن الرئيس الليبي السابق، بدهسِ عدّة سوريين، وإطلاقِ النار على الشرطة من سلاحِ مرافقيها، في العاصمة دمشق، كما يتحدّث آخرون عن اعتقال (هالة الجرف)، المذيعة السابقة في التلفزيون السوري، والتي انتقدت الأوضاع المعيشية السيئة، على صفحتها الفيسبوكية، دون تناول أيّ اسم بعينه، على عكسِ (سليمان).


ورغم أنّ سوريا من أشدّ دول العالم عداءً للإنترنيت، ومن أكثرها حجباً للمواقع الإلكترونية، لأسباب سياسيةٍ، تواكبت مع اعتقالاتٍ لسوريين مارسوا حقّهم في الإدلاء بآرائهم بالقضايا العامة، نظراً لعدم تمكنهم من التعبير عنها بشكل مباشر، ما قوّض أهميةَ هذه التقنية التي غيّرتِ العالمَ، ليصبح، بموجبها، قريةً صغيرة، وتغدو بدورها إحدى أهمّ الموارد الثقافية والاقتصادية، في ظل قوانين عصريّة تحمي قدسيّة الصحافة، وتحفظ حريّة وكرامة موظفيها ومفكّريها، رغم هذا فإنّ الثورة السورية، التي جعلتْ منها وسائل التواصل الاجتماعي محطّ اهتمام العالم، فباتتْ ثورةً معرفيةً بحدّ ذاتها، عندما بدأتِ المدوّنات بالظهورِ والمنتديات بالتشكّلِ، كسرتْ حاجزَ الصمتِ عند السوريين، للانفتاح، أخيراً، على العالم الذي كان يبدو بعيداً ومستحيلاً. استراتيجيةُ 


ليفانت : عبير نصر  ليفانت 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!