-
أزمةُ الغاز: القدمُ العرجاءُ للنّظام السوريّ
وبعيداً عن هذا التصريح الاستفزازي، من يتجرأّ على إنكار أنّ أزمةَ الغاز باتت جزءاً من أزماتِ النظام السوري البنيوية، التي حاول القفز عنها مع اندلاع الثورة السورية، واليوم بات بمواجهةٍ حتميةٍ معها، مهما حاول الإيحاء بأنّ "المحتكرين" من يفتعلون الأزمة. وعندما قامت دورياتُ الجمارك بفرضِ نفسها مع نهاية العام 2018، على الإشرافِ وتأمين توزيع الغاز، عقب منحها صلاحياتٍ واسعة من مجلس الوزراء، أشيع أنه تمَّ نقلُ (14) عاملاً من الإدارة العامة للجمارك إلى وزارات الزراعة والموارد المائية والصناعة، بسبب ضلوعهم بعمليات تسهيل احتكار الغاز المنزلي والصناعي. وسبب أزمة الغاز المستعصية، لا شكّ، ليس فقط العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، إنما المفروضة على إيران أيضاً، والتي عندما دخلت حيّز التنفيذ، ساهمت بتعطيل حركة شواحن النفط والغاز الإيرانية عبر البحار.
على صعيد موازٍ وتزامناً مع تقلّص سيطرة النظام السوري على حقول الغاز في البلاد، منتصف عام 2012، وافقت "وزارة الاقتصاد والتجارة" على منح الصناعيين إجازة استيراد مادّة الغاز كإجراء احترازي إسعافي، لكن دون جدوى، بسبب إحجام الكثير من التجّار عن استيرادها تخوّفاً من تعرّض شركاتهم لعقوباتٍ أمريكية، كما أنّ دولاً عدّة وشركات أوروبية تمتنع و"ما زالت" عن توريد المادّة للسبب ذاته، في وقتٍ لم يلقَ فيه سعي النظام لمنحِ رخصِ التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية مطلع العام 2017، أيّ تجاوبٍ بسبب استمرار الحرب الطاحنة.
الجدير ذكره أنّه قبل أربعة عشر عاماً، توقَّع مديرُ شركةِ نفطٍ غربية تعمل في سوريا أن يكون للغاز مستقبل جيّد لسببين: الأول حاجة البلاد إلى الطاقة، والتي ستدفعها إلى تكثيفِ عمليات الاستكشاف والتنقيب والتعاون الإقليمي، والثاني موقعها الجغرافي الذي يؤهّلها للعبِ دورٍ مهم، كمحطّة ترانزيت رئيسية لعبور خطوط الغاز الإقليمية والدولية. وكانت البلاد، قبل عام 2011، مطمَئنّة إلى استقرارِ توريداتها من الغاز الطبيعي، محلّياً أو خارجياً. فمن جهة، وصل إنتاجها اليومي إلى حوالي (29) مليون متر مكعّب، تتمّ معالجته في سبعة معامل حكومية مُوزَّعة جغرافياً في المنطقتَين الشرقية والوسطى، وسط مؤشّرات إلى اكتشافاتٍ جديدة من شأنها دعم الاستقرار الإنتاجي وزيادته تدريجياً.
المثير للاستغراب أنّ تقارير عدّة أكدت أنّ أزمةَ الغاز ليست وليدة ظروف الحرب كما يُروّج إعلام النظام، ففي عام 2008 سُجّلت سوريا بمراتب متأخّرة عربياً وهي إلى جانب البحرين، أضعف عشر دولٍ عربية في إنتاج الغاز الطبيعي. وبالنسبة للغاز المُسوّق عالمياً، تصدّرت حينها الجزائر بواقع (86.5) مليار متر مكعب في العام، تلتها السعودية (80.4) مليار متر مكعب، ثُمّ قطر (76.9) مليار متر مكعب، بينما سوريا (5.5) مليار متر مكعب فقط، كما أنّ البيانات الرسمية تؤكّد خسائر القطاع النفطي في سوريا لأكثر من (62) مليار دولار منذ عام 2011، والذي بلغت فيه كميّة الغاز المُنتج (21) مليون متر مكعب يومياً، لينخفض بشكلٍ تدريجي في الأعوام الذي تلته لتسجّل (8.2) مليون متر مكعب فقط، ثم ليسجّل ارتفاعاً في عام 2018 مُسجّلاً (16.5) متر مكعب. والسببُ يعود إلى اختلاف السيطرة على حقولِ الغاز وظهور حقولٍ جديدة اكتُشفت خلال سنوات الحرب في المنطقة الوسطى وشمال دمشق، دخل منها للخدمة في منتصف 2016 بقدرةٍ إنتاجية لخمسة آبار لا تقل عن (900) ألف متر مكعب يومياً، كـحقول "البريج وقارة" في ريف دمشق.
قبل سنوات، قيل إنّ مشروع خط الأنابيب القطري-التركي مُني بالفشل، لأن بشار الأسد رفضه بهدف حماية مصالح حليفته، روسيا، في الإبقاء على موقعها المسيطر في أوروبا، ترتّب على ذلك إعلان الدول المستفيدة من المشروع، وبين ليلةٍ وضحاها، أنّ الأسد "شخصٌ غير مرغوب فيه"، لتتداعى تدريجياً العلاقاتُ السورية مع بقية دول المنطقة. واليوم يعود الحديث عن هذا النوع من المشاريع، حيث أكد وزير النفط والثروة المعدنية، بسام طعمة، أنّ "خطَّ الغاز العربي" بات جاهزاً داخل سوريا لنقل الغاز المصري إلى لبنان، بعدما أُجريت عليه عمليات الصيانة باعتباره جزءاً من شبكة الغاز الداخلية، بعد تعرّضه لما وصفه بـعشراتِ الاعتداءات الإرهابية، وسرقة تجهيزات محطات الصمامات المقطعية الثلاث من جهة الحدود الأردنية. في عام 2003 تمّ تدشين المقطع الأول من الخطّ والذي يربط مدينة العريش المصرية بالعقبة الأردنية، وفي 2008 تمّ الانتهاء من استكمالِ مسار الخطّ داخل الأراضي السورية وصولاً إلى طرابلس في لبنان، ليتجاوز بذلك إجمالي طول الخطّ المنجز أكثر من ألف كم، بدءاً من العريش المصرية إلى حمص السورية، وبكلفة تزيد على 1.2 مليار دولار.
بطبيعة الحال، لم تمهل أحداثُ "الربيع العربي" التي عصفت بالمنطقة العربية المشروعَ المذكور ليكمل حلمه، مع تعرّضِ الشبكات الكهربائية، لا سيما في سوريا والعراق، للتخريب والتدمير الكبيرين، والاعتداء على الشبكة المصرية في منطقة سيناء مع مطلع العقد الثاني، كما فشلَ في التحوّلِ من مجرّد مشروعِ تعاونٍ عربي إلى مشروعٍ استراتيجي يربط بين الدول المنتجة والمستوردة للغاز الطبيعي. واليوم تبدو كلّ الظروف الاقتصادية مهيّأة لإعادة استثمار الخطّ من جديد، على الأقل في مقطعه العربي. فمصر عادت دولةً منتجة ومصدّرة للغاز، وحاجة كلّ من الأردن وسوريا ولبنان إلى الغاز باتت كبيرة لأسبابٍ خاصة بظروفِ كلّ بلدٍ منها.
وكان اجتماعٌ رباعي قد ضمّ وزراء الطاقة في سوريا ولبنان والأردن ومصر، عُقد في العاصمة الأردنية، لبحثِ سبلِ إيصال الغاز المصري إلى لبنان، عبر الأردن وسوريا. وجاءت هذه الاجتماعات بعد موافقةٍ من الولايات المتحدة الأمريكية على حلّ أزمة الكهرباء في لبنان، في حين اعتبر الوزير طعمة أنّ "هذا التعاون مع الدول العربية خطوة مباركة نحو إعادة العلاقات المنقطعة، بما يخدم الاقتصاد السوري ويخفّف من تداعياتِ الحصار الأميركي الجائر ضد سوريا وشعبها". وكشف في الوقت نفسه أنّ سوريا ستحصل على كمياتٍ من الغاز مقابل مروره عبر أراضيها، بموجب الاتفاقيات الموقعة. والسؤال الواجب طرحه هنا: هل سيؤدي هذا المشروع لحلّ مشاكل أزمة الغاز المتصاعدة، أم سيكون مصدراً جديداً متاحاً لعمليات السطو والابتزاز من قبل أمراء الحرب على حساب انسحاق الشعب السوري وفقره؟.
الشعب الذي يعاني معاناةً حقيقيةً في توفير "أسطوانة غاز" واحدة، وبعد انتظارٍ يطول حتّى تسعين يوماً، يحصّلها عبر بطاقة الاستغلال والإذلال "البطاقة الذكية"، في ظلّ تخبّطِ ذرائع النظام غير المقنعة لتبرير فشله الكارثي، والذي يدفعُ المواطنين إلى شراء أسطوانة الغاز من السوق السوداء، وبمبلغٍ يصل إلى ثمانين ألف ليرة سوريّة، ليقعوا ضحية الابتزاز والحاجة. ومهما يكن من أمرٍ هذه الأزمة الخانقة تبقى الحقيقة الجليّة هنا أنّ اختلاف واقع السيطرة على حقول الغاز وتغيّره بين الحين والآخر يترك آثاراً سلبية على حياة المواطن بالدرجة الأولى، لا سيما وأنّ المادّة ذاتها من أهم عوامل تأجيج الصراع واختلاف قواعده، وفقاً لما يراه الكثير من المراقبين.
ليفانت - عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!