الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
أثرياء الحرب الجدّد في سوريا
عمار ديوب

اختلاف كبير بين فئات الطبقة الحاكمة في سوريا قبل 2011، وبعدها؛ "الفئتان" اللتان نهبتا ثروات سوريا عبر العلاقة مع السلطة وأجهزتها الأمنية، مع فارق أن الثانية انبثقت من "العدم والقاع" ودون أيّة ثروات موروثة، بينما الأولى لثرواتها مصادر متعدّدة؛ فبعضها من بقايا البرجوازية "التقليدية"، ومن الخطأ تسميتها بالوطنية، وبعضها الآخر، وأهمها رامي مخلوف، الآتي من خلال فساد والده ونهبه لثروات الدولة، ولا سيما من النفط، وسُمي "خازن القصر" في دلالة واضحة على العلاقة الاستثنائية بين السلطة والمال، وأنها الأساس في صعود أيّة شخصيات اقتصادية جديدة.

أصبحت تلك العلاقة أكثر وضوحاً بعد 2011، وصعود شخصيات، هي بمثابة موظفين لدى السلطة بينما كان رامي يمتلك استقلالية معينة تجاهها، ويتعامل من موقع الشريك في الحكم، وهذا الشكل من العلاقة مع السلطة صُفيُّ مع 2017، ووضِع رامي تحت الإقامة الجبرية، وغادر أخاه، الضابط الأمني "حافظ مخلوف"، البلاد، وصعدت شخصيات بديلة عنه كـ يسار إبراهيم، وأبو علي خضر وسامر فوز، وسيطر هؤلاء على شركات رامي الطائلة، وهم وآخرون، حازوا بجدارة صفة أثرياء الحرب.

ظاهرة الأثرياء هذه، ترافقت مع اقتصاد الحرب، ونزعة احتكارية وعنيفة للسيطرة على ثروات البلاد؛ فالحرب والنهب أهلكا مليارات البنك المركزي وتَعطل الاقتصاد، وجُفّفت الكثير من موارد الفساد، وجاء تفضيل شريحة كبيرة من أصحاب الأعمال القدماء الهجرة إلى خارج البلاد، أو الانكفاء عن العلاقة مع السلطة كسبب إضافي لتراجع عمليات النهب والفساد وتوقف دورة الاقتصاد، وهناك خروج قطاعات النفط من سيطرة الدولة، وبالتالي، وأمام حاجات الدولة والنظام والحلفاء، اضطرت السلطة لممارسة أشكال من العنف والتهديد المباشر لأصحاب الأعمال للدفع لمكاتب السلطة أو لشخصياتٍ منها وكذلك لخزينة الدولة، كيسار إبراهيم، الذي تسلم "المكتب السري" في القصر الجمهوري، والمسؤول عن متابعة الفعاليات الاقتصادية، وعن أدق تفاصيل عالم الأعمال في سوريا، وفرض "خوتات، وإتاوات" عليهم، للاستمرار في أعمالهم. السلطة "المنتصرة" منذ 2015، لم تهتم أبداً بتأمين بيئة اقتصادية أو اجتماعية لتنشيط إعادة الإعمار، ولا سيما بعد دخول الروس إلى سوريا، واستعادتها مدناً وبلدات كثيرة من القوى الخارجة عنها.

اقتصاد الحرب، تزامن مع بروز ظاهرة الميليشيات، التي قَمعت المتظاهرين وحاربت مع قوات النظام في مختلف المدن، وكانت تُموّل من المرتبطين بالسلطة، وهي ليست من القوات العسكرية للدولة، وتعدّدت أنواعها في مختلف المدن، ومن مختلف الطوائف كذلك؛ علويون ومسيحيون وسنّة، وارتبط بعضها بإيران وبعضها بروسيا، مع إعادة النظام سيطرته على أغلب مدن سوريا، قام بإصدار قوانين شرّعت بعض تلك الميليشيات تحت مسمى الشركات الأمنية أو الفيلق الخامس التابع لروسيا، ودُمِجت بعضها بالجيش النظامي، ومنها ما حُلّ وفُكّك.

الحقيقة أنّه لم يعد لوجودها أيّ مبرّر، حيث فَرضت تطورات الأوضاع إنهاء ظاهرة الفلتان الميليشاوي. إن ضرورة وضع اليد على الثروات واحتكارها، وإنهاء المليشيات الخارجة عن سيطرة السلطة استدعى إعادتها لكنفها، واحتكار الثروة مجدّداً، والتي تشتّت لبعض الوقت بين 2011 و2017، وكانت ممركزة قبل ذلك، وأعيدت لها المركزية بعد 2017، وترافق ذلك مع أمراء حرب جدّد، ولهم خصائص جديدة عما قبل 2011.

في الاقتصاد، لا بد من تحديد مصدر الثروات، فهي إمّا من نهب القطاع العام وإمّا تتشكل عبر السوق والوراثة. إن أثرياء الحرب الميليشاويين، ولا سيما بعد 2017، فرضوا "سياساتهم" على الدولة، فاستأنفت سياسات الخصخصة، بقراراتٍ جديدة لصالح الأثرياء الجدد، وباحتكار كاملٍ لصالح شخصيات بعينها، كأسرة قاطرجي، التي أَسست شركة أمنية، وحصلت على نسبة كبيرة من عائدات تجديد مصفاتي نفط طرطوس وحمص. ترافق احتكار الاقتصاد مع ندرة البضائع في السوق وارتفاع أسعارها أضعافاً مضاعفة، وتخلت الدولة عن دعمها السابق لمصادر الطاقة وللخبز وللأرز والسكر والزيوت وسواها، وارتفعت أسعار هذه المواد مرات ومرات، فأصبحت وظيفة الدولة، إضافة لاحتكار العنف وممارسته، الجباية وفرض الضرائب، والاستمرار في تهميش القطاعات التي ما تزال تابعة لها، كقطاع التعليم والصحة، وتمّ ذلك لصالح الأثرياء الجدد؛ المسيطرين على الاقتصاد والدولة.

مع فرض الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عقوبات على شخصيات اقتصادية، وتابعة للسلطة، قامت الأخيرة بتوكيل شخصيات جديدة، داخل سوريا وخارجها، لتأمين حاجات السلطة والدولة من البضائع، وهذا من أسباب ظهور شخصيات اقتصادية غير معروفة سوريّة وعالمياً، وليست لها أية استثمارات خارج سوريا، وهي، كما تقول الدراسة، بمثابة موظفين، أو وكلاء للسلطة، وهذا يعني أن الاقتصاد برمته أصبح محتكراً بشكل كبير، أي إن هناك سيطرة ونهباً للقطاع العام والخاص معاً.

إن حجة النظام بأن العقوبات الخارجية تمنع إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد وتحسين أوضاع الأكثرية، وهي سبب تردّي الأوضاع الاجتماعية لأغلبية السوريين، تعاكسها تماماً سيطرة السلطة والتابعين لها على الاقتصاد بكل أشكاله.

إن وضعية السلطة والاقتصاد هذه، معروفة جيداً للدول العربية والإقليمية والعالم، ومع ذلك حاولت تلك الدول إعادة تأهيل النظام، عبر ما سُمي بإعادة التطبيع بعد 2018، ولكن سياسات النظام منعت ذلك، وهي سياسات تنطلق من التحالف مع إيران خاصة، وأن هذا التحالف له الأولوية، وهو تحالف حقيقي، ومتعدد الأوجه؛ فإيران من حَمت النظام بعد 2011، وهي من أعطته خطوط ائتمان بمليارات الدولارات، ولإيران ميليشيات واستثمارات وجيش على الأراضي السورية، وهي من تدعم بقاء السلطة والدولة على طبيعتهما، بينما الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وكثير من الدول تسعى لتغييرٍ بسيط في السلطة، وليس لتغييرها بشكل كامل؛ التغيير الجزئي هذا، ترفضه السلطة وكذلك إيران، وروسيا تميل إلى تغيير هامشي فقط. إن مشكلة النظام عميقة، فهو غير قادر على التغيير بكل بساطة، وعلاقته بإيران تمنعه من التفكير بذلك، وكذلك سياساته القمعية التي مارستها بعد 2011 خاصة.

إن غياب إمكانية إصلاح النظام لذاته، تدفعه إلى احتكار الثروة بشكلٍ كبيرٍ، ولا سيما في القطاعات الأكثر مردودية، وترك الهوامش لبقية التجار ورجال الأعمال والطبقة الوسطى. هذه السياسة، وباستمرار العقوبات الخارجية، أفرزت أغلبيةٍ سوريةٍ مفقرة ومهمشة، وهي تتعدى الـ 90 بالمائة، وتعيش على المساعدات الخارجية، الأممية والأهلية.

إن احتكار الاقتصاد والاستمرار بخصخصته، ولبرلته، وغياب القدرة على الإصلاح في الشأن السياسي وأمور السلطة، سيمنع التطبيع معه، وهو ما لاحظناه من تأزّمٍ في العلاقات مع الأردن مؤخراً، وتراجعها مع دولة الإمارات. يضاف إلى كل ذلك الحرب الروسية على أوكرانيا، و"الانسحاب" الجزئي للروس من سوريا، وخلو الساحة لإيران؛ أقول كلّها أسباب تُغلِق الباب للإصلاح بكل أشكاله، وتفتح أبواب التأزّم أكثر فأكثر، وعلى كافة المستويات.

الأثرياء الجدّد، هم وكلاء لأقطاب السلطة، ولا يملكون أيّة استقلالية أو أفكار عن ضرورة التغيير، وهناك أمراء حرب ومحتكرون للثروة في مناطق قسد وهيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لتركيا، وبالتالي تتجه سوريا نحو تأزّمٍ شديدٍ، وربما نحو انفجارات اجتماعية جديدة، قد تضع نهاية للنظام ذاته وللأمراء المستقلين عنه. إن الوضع المتأزّم هذا مفتوح على كافة أشكال التغيير، الداخلية والخارجية؛ ولا يوقف ذلك، غياب أيّة مؤشراتٍ ظاهرةٍ نحو التغيير.

هذه المقالة تستند في فقراتها الأولى إلى دراسة، صدرت مؤخراً، وهي "أثرياء الحرب الجدد محل قدامى رجال الأعمال في سوريا"، للكاتب وجيه حداد، والمنشورة في موقع حرمون.

 

ليفانت – عمار ديوب

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!