-
أباطرة في خدمة السيد.. التحولات الكبيرة في السياسة الأمريكية
تتفاعل الأحداث وتتسارع على المسرح العالمي بنحو مثير ومقلق لجميع القوى الإقليمية والدولية ويلفّ الضباب الكثير من السياسات الدولية حتى يكاد أن يكون المشهد الدولي عصيّاً على الإحاطة فيه وفهم طبيعة هذه التحولات والسياسات الدولية المتبعة إزاءه.
وأتت الأزمة الروسية الأوكرانية والغزو الروسي لأراضي دولة ذات سيادة ليكون بمثابة الصدمة التي استفاق العالم عليها وعلى واقع مرعب مفاده أن مسألة السلم والأمن الدوليين مهددة في أي وقت بفعل تنامي قوى وسياسات غير منضبطة، قد تؤدي لنتائج لا يحمد عقباها، على الصعيد الدولي والإقليمي، وما يمكن أن تفرزه من كوارث على الصعيد الإنساني والاقتصادي والاجتماعي.
هذا هو المشهد الحالي الذي رافق هذه الأزمة، وما سبقها من أجواء مهدت لهذا المشهد القاتم، وباختصار شديد أتت هذه الأزمة وهذا الصراع بعد جملة من ملفات ما تزال عالقة ضمن أروقة مطبخ السياسة الدولية، كملف الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية والملف النووي الإيراني والصراعات الاقتصادية بين القوى الدولية وظهور أكثر من قطب اقتصادي وعسكري يحاول أن يظهر ويتمدد على الساحة الدولية والتجاذبات التي ترافق هذا التمدد وسعي كل قوة دولية لحماية مصالحها من وجهة نظرها بغض النظر عن المصالح الدولية الأخرى، وهذا انعكس تماماً على السلم والأمن الدوليين، وخصوصاً في منطقة القارة العجوز ومنطقة الشرق الأوسط.
ومن يتابع هذا المشهد يدرك مدى التحولات الكبيرة التي شهدتها سياسة القطب الأوحد والقوة الفاعلة الأكبر على الساحة الدولية، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، التي سعت عبر أساليب جديده مبتكرة وحديثة إلى إدارة مفهوم هذه الصراعات بأشكالها والاستفادة من هذه الصراعات لزيادة قوتها وديناميكيتها، بحيث تؤكد مراراً وتكراراً أنها ما زالت القوة الأكثر فعالية في رسم وتوجيه السياسات الدولية.
ولفهم طبيعة التحولات في هذه السياسة، لا بد من مرور سريع على الظروف التي مرت بها هذه السياسة خلال العقود المنصرمة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي، المنافس السابق للسياسة الأمريكية، والقوة التي كانت أحد عوامل توحد الديمقراطيات الأوروبية تحت كنف وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لعقود، حيث كانت السياسات الأوروبية على اختلاف تفاصيلها تدور في فلك السياسة الأمريكية التي كانت توجهها حسب ما تقتضي المصلحة الوطنية الأمريكية أولاً، ومن ثم المصالح الوطنية للقوى الأوروبية.
ومنذ مطلع الألفية الثانية، استطاعت السياسة الأمريكية وبجدارة تشكيل حلف موحد عالمي إلى حد ما لمجابهة عدو شارف على الانتهاء، وهو الإرهاب بأشكاله، حيث كان هذا العدو هو الدافع للسياسة الأمريكية لتشكيل وإدارة الصراعات وفق مصالحها، بغضّ النظر عن سياسات وأنظمة الأعداء السابقين من فلول الاتحاد السوفياتي، فكانت محاربة الإرهاب هي العنوان الأبرز لما تريد السياسة الأمريكية تحقيقه في كل العالم من مصالح ومكاسب، على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو العسكري.
وخلال إدارة الصراع مع الإرهاب، حاولت قوى تقليدية كانت تدور في الفلك الأمريكي رسم خطوط ومحاور لسياستها خارج معادلة القطب الأمريكي، وأعني هنا منظمة الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية التي حاولت بطريقة ما الخروج من هيمنة القرار الأمريكي ورسم سياسات قد تتوافق كثيراً مع الراسم الأمريكي وتختلف أيضاً في قضايا أخرى، وشهدنا في السنوات الماضية كثيراً من محاولات قوى أوروبية الاستقلال والانفراد بالقرار الأوروبي عبر طروحات، كإنشاء قوة أوروبية موحدة أو قوة اقتصادية أوروبية موحدة، ومحاولة أطراف وسياسات وقيادات أوروبية الاستقلال بالقرار الأوروبي، ومحاولتها الوصول للدور التقليدي القديم لها في زعامة العالم، تلك الزعامة التي مضى عليها عقود، وانتهت بنهاية الحرب العالمية الثانية.
وما فشلت الإدارات الأمريكية الثلاث السابقة في إعادة القوة الأوروبية للكنف الأمريكي بشكل كامل، نجح به أحد أباطرة الاستبداد عبر سياساته الرعناء في سوريا وأوروبا، وعبر تلك المغامرات العسكرية غير المحسوبة في سوريا، ومن خلال الاجتياح السابق لجورجيا والاستيلاء على أراضٍ وغزو دولة كأوكرانيا، تلك السياسة أعادت أوروبا بكاملها لتلقي بكل مقدراتها في أحضان السيد الأمريكي الذي أثبت عبر سياساته الجديدة أنه قادر على استعادة زمام مبادرة قيادة العالم الحر في كل العالم، هذه السياسة التي حولت كل ما يبدو من تحركات وتحولات سياسية وعسكرية واقتصادية في هذا العالم لصالحها ولصالح سيطرتها المقبلة على القرار العالمي. فالملف النووي الإيراني وموضوع الإرهاب والغزو الروسي لأوكرانيا ومحاولة التمدد في أكثر من منطقة من هذا العالم، والذي يبدو ظاهرياً أنه سيعمل على تقويض القوة الأمريكية، انعكس إيجاباً على هذه القوة، وزاد من تماسكها وترسيخ فكرة قيادتها المنفردة للعالم، وأظهر هشاشة القوى الدولية الأخرى إذا ما قورنت بالولايات المتحدة على كافة الأصعدة، إن كان عسكرياً أو اقتصادياً.
سقط الطموح الروسي وآماله بعودته لمصافي القمة العالمية بغزوه لأوكرانيا، وظهر مدى الضعف الاقتصادي والعسكري الذي يعتريه مع أول مجابهة حقيقية، وأظهرت الأحداث الأخيرة الدور الاقتصادي للسياسة الأمريكية ومدى قدرتها على انتزاع جميع الأوراق من يد خصومها، كالنفط والغاز، فهذه قوى ودول كانت تتوق للعب أدوار أكبر من حجمها الاقتصادي، سارعت للتخلي عن حليفها الروسي في أول مواجهة مع القطب الأمريكي، فهذه الصين، وهذه اليابان وأوروبا، وحتى فنزويلا، سعت لتقديم خدماتها النفطية تعويضاً عن النفط الروسي.
تلاشى الدب الروسي في أوكرانيا عبر خطواته غير المحسوبة، وما تخفيه السياسة الأمريكية الجديدة من أدوار للجميع ما يزال مجهولاً، وإن كان أبرز سمات هذه الأدوار أنها ستكون فقط وفق الهوامش التي ترسمها تلك السياسة فقط.
ليفانت - عبد العزيز مطر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!