-
تركيا تحول الثوار لمرتزقة
وردت أخبار عن إرسال تركيا لمقاتلين سوريين إلى ليبيا، قدرت الدفعة الأولى منهم ب 300 مقاتل ، وهو ما يستدعي إجراء مراجعة شاملة وتقييم للموقف التركي من الثورة السورية :
أولاً لا بد من الإعتراف بأن تركيا قدمت مساعدات وتسهيلات إنسانية ، وبالمقارنة مع دول عربية جارة فإن اللاجئ لتركيا يتمتع بوضع أفضل منها جميعاً، لكن هذا التعاطف الإنساني لا ينعكس في الموقف السياسي التركي، الذي يختلف و يتناقض مع موقفها الإنساني.
مع بداية الثورة بدا موقف تركيا الرسمي من الثورة متردداً، وحافظت على نوع من التواصل مع النظام الذي كانت تربطه معها علاقات قوية قبل الثورة، لكن انتصارات الثورة وشمولها، وإفراط النظام في القمع وحماسة المواقف الدولية دفع بالنظام التركي لتغيير موقفه وتبني مطالب الثورة اعتباراً من بداية عام 2012 ( بضرورة إسقاط النظام المجرم ومحاسبته، وبناء سورية الحرة الديموقراطية) وهي الفترة الذهبية التي شعرت فيها المعارضة السياسية أن حضنها الأم هو تركيا، التي فتحت أبوابها وقدمت ما يتوفر من تسهيلات.
لكن مع قرار إدارة أوباما القيادة من الخلف، وتوصية المخابرات البريطانية بدعم حزب الإخوان لقيادة الربيع العربي الذي وصفته بأنه إسلامي، ووصفت الإخوان بأنهم معتدلون ومعروفون لديها جيداً، وجدت الدول العربية الفرصة مناسبة لأسلمة الثورة (لخوفهم من انتقال عدوى الديموقراطية لشعوبهم)، ووجدت تركيا الغطاء لتركيز دعمها لجماعة الإخوان المقربين منها بسبب عداء الفكر القومي العربي لها، في هذه الفترة نمت المنظمات الجهادية بشكل سرطاني على حساب الجيش الثوري التطوعي ( الحر ) واستُبعد الكثيرون بحجة أصولهم البعثية والعلمانية، وهيمن تنظيم الإخوان سياسياً على تمثيل المعارضة والعمل الإغاثي وتوريد السلاح وتوزيع المال، واستغلت ذلك المناخ قوى أقليمية (حلف الممانعة) للدفع بداعش والقاعدة ومنظمات إرهابية أخرى لابتلاع المشهد، تمهيداً للقضاء على الثورة تحت ذريعة محاربة الإرهاب ... حتى تلك الفترة لم تكن تركيا بعيدة عن دعم المجاهدين ومن دون تمييز، بسبب اعتمادها على وكيلها الحصري (تنظيم الإخوان السوري في الخارج) الذي قاد الثورة نحو الفشل عسكرياً وقبله سياسياً وإدارياً.
مع تنامي داعش السرطاني وتشكيل الولايات المتحدة حلفها لمحاربة الإرهاب، رفضت تركيا المشاركة فيه، وهذا خطأ جسيم ثاني لو لم ترتكبه لكانت اليوم تملك معظم أوراق الحل في سوريا، فدعمت أمريكا ميليشيات كردية مسلحة محلية نظمت نفسها تحت شعار حماية الشعب ( من داعش )، وهي بالأصل منظمات عسكرية ماركسية حليفة منذ عقود لروسيا وللنظام في دمشق ومارست الإرهاب ضد تركيا، بنفس الوقت امتنعت أمريكا عن دعم أي فصيل عربي لمحاربة داعش بحجة عدم الثقة، التي بررتها بتجربتين فاشلتين على الأقل. وهكذا انتصر الكرد الماركسيون على الدولة الإسلامية (داعش) في سورية، وتحولوا لشريك أمريكا الوحيد في شمال وشرق سورية حيث حقول النفط، وهنا تعاظم حماس الكرد القومي وانتهزوا الفرصة لمحاولة إقامة دولتهم (الحلم) على أنقاض داعش والمكوّن العربي الذين ألصقت به تهمة الإرهاب. وفرضت قسد نفوذها على ثلث سورية تقريباً بدعم أمريكي عسكري ومادي كبير. وباشرت في تشييد أركان دولتها هناك ، وهو ما ساهم في تغيير موقف تركيا من الثورة جذرياً.
شعرت تركيا بالخطر الوجودي عليها بالنظر لتداخل القضية الكردية بين سورية وتركيا ، (معظم أكراد شرق الفرات قد سكنوها بعد أن هاجروا من تركيا في النصف الأول من القرن الماضي) وبالنظر لتوتر علاقاتها مع أمريكا ومع روسيا لم تكن تركيا قادرة على فعل شيء لدرء هذا الخطر، خاصة بعد إسقاط الطائرة الروسية التي كانت تستهدف قرى التركمان في الشمال. لكنها بعد الانقلاب الفاشل لقادة من الجيش التركي تحولت تركيا للانخراط الكامل في المسار الروسي، والذي يقاتل الشعب السوري ويرتكب كل أنواع المجازر بحقه، وهكذا ساهمت تركيا مع أعداء سوريا بمسار الأستانة ثم سوتشي، ودفعت بالمعارضة المحتضنة عندها للسير فيه مستفيدة من تشرذم المعارضة وطغيان الانتهازيين والفاسدين على مؤسساتها، وبموجبه جرت مقايضات كبرى على حساب هزيمة الثورة مقابل وضع قدمها في شمال حلب ( درع الفرات ) ثم في عفرين ( غصن الزيتون ) ثم الآن في الجزيرة (نبع السلام) التي تحاول أن تمتد بشكل متدرج لتشمل 32 كم عرضاً على طول الحدود بين سورية وتركيا، وتصبح منطقة نفوذ تركي كامل إذا لم يحدث أحد أمرين:
1- انجاز تسوية سياسية، وقيام هيئة حكم انتقالي تحفظ وحدة سورية وتمنع قيام كيان كردي، وهذا ما يزال بعيد الاحتمال بسبب هزيمة المعارضة عسكرياً، وتعنت النظام ومن ورائه روسيا وإيران، وعدم وجود إرادة غربية لاستخدام القوة، والاكتفاء فقط بالضغوط الاقتصادية.
2- سيطرة النظام بالكامل على سورية ومنع قيام كيان كردي بالتفاهم مع تركيا، وهذا أيضاً غير مرجح حتى الآن بالنظر لرفض الشعب السوري وصموده ، وتعمد النظام افتعال الخلافات مع تركيا ... والتي منها التهجم من قبل الأسد على أردوغان شخصياً، والذي أثار انزعاج روسيا، ومع ذلك لم تنقطع المحاولات الروسية لجمع تركيا والنظام على طاولة التفاهمات، فلهم مصلحة مشتركة في إخراج أمريكا من حقول النفط ومعها من تبقى من قسد.
وطالما أن أحد هذين الأمرين لن يحدث في الأفق المنظور على الأقل، فإن تركيا ستسير بسياسة القضم في المنطقة المحددة شمال سوريا، وسوف تباشر بإحداث تغيير ديموغرافي غير قابل للعودة فيها، بضخ مليوني لاجئ على الأقل في المنطقة الآمنة، وتأمين ظروف الحياة الاقتصادية اللازمة لاستقرارهم النهائي في هذه المنطقة الغنية، لكن ذلك لن يمنع النظام من محاولة احتلال ادلب أو أقسام منها في المرحلة الأولى ، وتهجير سكانها نحو المنطقة الآمنة التركية التي سترحب بهم طبعاً، ولن يمنع إيران ولا روسيا من استكمال عمليات التغيير الديموغرافي في مناطق سيطرتهم (الساحل، والقلمون)، وترحيل المزيد والمزيد من العرب السنة للشمال المحاذي لتركيا ... في سيناريو كارثي يخدم مصالح مسار سوتشي ويقوّض وجود سورية نهائياً.
في الخلاصة تركيا سياسياً (بعكس إنسانياً كما نوهنا في البداية) لم تؤيد مطالب الشعب السوري إلا فترة زمنية محدودة 2012 – 2013 وذلك إعلامياً فقط، لأنها في ذات الفترة كانت تساهم في أسلمة الثورة، وتساهم في تشويه تمثيلها ومنع قيام قيادة فعلية لها، واستبدالها بنخب انتهازية مطيعة لها ولبقية الدول المتدخلة ... تجسد ذلك في صيغة المجلس الوطني ثم الائتلاف قبل التوسعة وبعدها، ثم في تأييد مسار جنيف بداية عام 2014 مع أنه بوابة لشرعنة بقاء نظام الأسد واعتباره طرفاً في الحل، وطعنة للثورة في صميمها (بتحويل الخلاف مع نظام الأسد كمجرم يقتل شعبه، لصراع سياسي بين طرفين)، ثم دعمت وشجعت مسار الأستانة الذي من خلاله تم سحق ثورة الشعب وتسليم المناطق المحررة تباعاً عبر استراتيجية خفض التصعيد التي تبنتها ودعمتها، والتي انتهت بمكاسب كبيرة جداً للنظام وايران وروسيا، ومكاسب هزيلة لتركيا التي تقلصت أهدافها في سورية لمجرد منع قيام كيان كردي بجوارها. وأصبحت مستعدة للذهاب بعيداً مع النظام إذا ضمن لها ذلك.
وأخيراً ساهمت تركيا أيضاً في دعم مسار الهيئة الدستورية، الذي استبعد منه المكوّن الكردي بتفاهم مع روسيا التي استبعدت عملياً كل حاضنة الثورة ورموزها، ولا يخفى أن هذا المسار مصمماً لإعادة الشرعية لشخص الأسد ونظامه عبر لعبة انتخابات تشريعية ورئاسية حرة يفوز بها حتماً.
بقبول تركيا بقاء الأسد وإعطاءه الشرعية من جديد، تكون قد تحولت من صديق للثورة لعدو لها، فعين تركيا لم تعد على الثورة السورية، بل على أمنها القومي فقط، وهي تلتزم الصمت حيال محرقة إدلب بالرغم من كونها دولة ضامنة لوقف العمليات وخفض التصعيد، و في حال فشل احتمال بقاء الأسد رئيساً يحكم سوريا وهذا متوقع، سيكون تقسيم وتقاسم سورية هو السيناريو البديل الذي تساهم فيه تركيا مع روسيا وإيران.
مشكلة تركيا أنها تريد حل القضية الكردية بطريق القوة، لكنها حتى لو فرضت بالقوة سلطتها على 30 كم (وهذا مستبعد جداً بسبب عدم صدق الروسي معها) فماذا ستكون عليه الحال في المناطق الأخرى؟ هل هي غير مؤثرة على الأمن القومي التركي، هل نقل تركيا لحدودها مسافة 32 كم جنوباً يلغي هذه الحدود، أما أن هذه خطوة في طريق حذف سورية من الخارطة؟
سؤال يسأله بإلحاح أكثر من غيرهم السوريون في إدلب، الذين هم اليوم تحت قصف النظام وروسيا الوحشي، في حين يلوذ الطرف الضامن بالصمت ولا يتكلم، ويقاتل جيشهم الوطني في مكان آخر بقيادة تركية!
في هذا الوقت نسمع خبر إرسالها مقاتلين سوريين كمرتزقة ليقاتلوا في ليبيا حماية لاتفاقيتها مع تركيا، بدلاً من دفاعهم عن أهلهم ووطنهم، مستغلة حاجة البعض التي وصلت حد المجاعة، وحماقة آخرين التي وصلت حد الجنون ... هكذا ببساطة تحول تركيا الثوار لمرتزقة، وتصبح شريكة في مأساة الشعب السوري، نقول هذا بكل أسف وخيبة رجاء.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!