الوضع المظلم
الأحد ٢٨ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
يا حيف
ثائر الزعزوع

سأقول بداية إن محاولة كتابة رأي سياسي، أو تحليل، لما يحدث على الأرض السورية أو داخل أروقة الدبلوماسية الدولية القذرة المظلمة، هو أقرب إلى أعمال التبصير، وقراءة الطالع، فلا شيء واضح، ولا حقائق يمكن الاستناد إليها، ولا معطيات تقود إلى نتائج، لذلك تنهار جهودنا في قراءة المشهد قراءة علمية، ونلجأ للاستناد على “تسريبات” غير موثوقة، أو ربما “تغريدة” عابرة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، قد يكون كتبها شخص مغمور ليس مؤثراً في المشهد برمّته، لكننا نتلقّفها بكل عناية، ونحاول أن نبني على أساسها، وجهة نظر، وكي أجد لنفسي مهرباً من هذه الحالة، فقد حاولت خلال الأيام الماضية استعراض مسار الثورة السورية، منذ أيامها الأولى، وصولاً إلى ما وصلت وما وصلنا إليه.


كثيرة هي الكتب والوثائق التي نشرت، كثيرة أيضاً المقالات التي كتبت، وهناك ركام هائل من مقاطع الفيديو والصور، والشعارات، وأيضاً وأيضاً… لن أدّعي طبعاً بأنّي اطلعت على ذلك المنتج كله، وربما لا يستطيع أحد ادعاء ذلك أبداً، لكن شيئاً واحداً استوقفني أكثر من كل ما ذكرت، شيء يعود إلى الأيام الأولى للثورة، وهو يختصر الحكاية السورية كلها، أغنية خالدة كتبها ولحنها وغناها سميح شقير.


والحقيقة أنّ الفرصة لم تتح لي لسؤال سميح شقير عن تلك “النبوءة” المبكرة التي دفعته لكتابة ذلك النص الشعري، واختيار تلك العبارة المدهشة “يا حيف” التي تحمل مفردات خيبة الأمل السورية كلها، يخرج الشباب ليهتفوا للحرية التي سمعوا صوتها، ليروا “أخوتهم” يحملون البواريد، ويظنوا أنّ أولئك “الأخوة” لن يطلقوا النار عليهم، لأنهم “أخوتهم”، لكن ما حدث أنّ الرصاص الحي انطلق باتجاههم وقتلهم، فصاحوا “يا حيف”، ونحن اليوم نردّدها ربما أكثر مما رددناها سابقاً، ولو أردنا إحصاء خيباتنا المتلاحقة، لما توقفنا، فخيبة الأمل في أن تتحوّل قوى المعارضة، وفيها شخصيات محترمة، إلى قوى أجيرة عند دول ومنظّمات، تنفذ أجندات خارجية، هدفها الأول زيادة تدمير سوريا وتهجير أهلها، ويا حيف كبيرة جداً، لأن يساق سوريون بتوجيهات من هذه الجهة أو تلك، ليصبحوا مقاتلين مرتزقة في جبهات أجنبية، فيما تذبح سوريا من الوريد إلى الوريد، وقد تحولت إلى ساحات تصفية حسابات دولية، ويا حيف لا تنتهي لأنّ السوريين لم يعودوا منقسمين إلى موالاة ومعارضة فقط، بل هم منقسمون أفقياً وطولياً، وفي كل الاتجاهات، طائفياً، وقومياً، وعشائرياً، ومناطقياً. فهل كانت “الحرية” التي خرج الشباب ليهتفوا لها، كما كتب سميح في أغنيته، تستحق هذا الثمن الباهظ؟، هل كنا نستحق هذا التمزّق كله، وضياع الهوية؟


سأعود إلى “يا حيف” الأغنية، وفي لحظة أردت أن أقارنها بالأغنية الإيطالية الشهيرة، “بيلا تشاو”، التي أنشدتها المقاومة الإيطالية ضد النازية إبان الحرب العالمية الثانية، والتي ازدادت شهرتها أكثر بعد أن استخدمت في مسلسل “لا كاسا دي بابل” الإسباني الشهير الذي عرض عام ٢٠١٩، لتعود الأغنية إلى الواجهة عالمياً، ويغنيها شباب يرتدون أقنعة “سلفادور دالي” التي استخدمت في المسلسل من قبل “اللصوص”، لصوص ينشدون أغنية ثورية، تماماً كما قد يجتمع بعض الأشخاص الذين يمثلون المعارضة السورية، والذين يعلم الجميع بأنّهم “فاسدون” ليغنوا أغنية “يا حيف”، ولم لا؟، وكما قد تنسى أجيال قادمة حكاية “بيلا تشاو” الأصلية، وربما يربطونها بأولئك اللصوص الظرفاء، كذا ربما سوف تصير “يا حيف”، أنشودة يغنيها “لصوص” ما، في حكاية ما.


من أجمل مقاطع الفيديو التي التقطت خلال سنوات الثورة السورية، مقطع صور في مدينة دوما، وتحديداً في جامعها الكبير، يقف منشد، بعد أداء الصلاة، ويرفع صوته بالغناء: “يا حيف”، فيردّد المصلّون وراءه، في تناغم عجيب، ولم يشعر أي منهم أنّ تلك “الأغنية” قد تسيء إلى حرمة الجامع، بل، وتكاد ترى ذلك في وجوههم، شعروا للحظة بأنّ غناءهم أقرب إلى صلاة ثورية.


خلال فترة اعتقالي في إدارة أمن الدولة، زُجّ بي في مهجع يحوي شباباً من طلاب جامعة حلب، كانوا قد اعتقلوا إثر مشاركتهم في مظاهرة داخل حرم الجامعة، ووجّهت لهم تهمٌ كثيرة، كتلك التي يوجهها النظام لكل من يلفظ كلمة الحرية، وفي واحدة من أعظم لحظات ذلك المهجع، غنينا جميعاً ونحن ملتصقون بعضنا ببعض، “ياحيف”، هامسين، فشعرنا بحالة انتصار غريبة، حين وصلنا إلى تلك الجملة “كلمة حرية وحدة هزتلو أركانو” وضحكنا، كانت لدينا ثقة أن تلك “الحرية” آتية لا محالة، أذكر الآن وجوه الشباب، وأذكر حماستهم، واندفاعهم إلى “الحرية”، كما لو أنّ تلك “اللحظة” تحدث كل يوم. فهل تستحقّ الحرية كل ما حدث؟.


كم يبدو هذا السؤال ساذجاً حقاً، فإن لم تستحق “الحرية” أن يناضل الإنسان في سبيلها، فما الذي قد يستحق ذلك حقاً؟


وكي لا تتحوّل أغنية “يا حيف” إلى أغنية يغنيها لصوص في مسلسل، ربما علينا كل يوم أن نذكر أنفسنا بها، وربما أن نعلمها لأولادنا. فـ”الحرية” لا يجب أن تهزّ أركان الطغاة فقط، بل الفاسدين أيضاً. وما أكثرهم.


ليفانت – ثائر الزعزوع

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!