-
هل تستفيد المعارضة السورية من حكم محكمة كوبلنز أم تتخوّف منه؟
بتاريخ 13 كانون الثاني 2022، أصدرت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز بألمانيا حكمها بحق ضابط المخابرات السوري المنشق أنور رسلان، والقاضي بسجنه مدى الحياة لارتكابه جريمة ضد الإنسانية على هيئة تسبب في إحداث الموت، والتعذيب، والحرمان من الحرية بصورة جسيمة واغتصاب وإكراه جنسي، وتم إقامة الدليل وإثبات أنّ المدّعى عليه كان في إطار هجوم موسّع ومنهجي على السكان المدنيين السوريين.
لن أدخل هنا في دائرة الجدل الذي أقحم السوريون أنفسهم فيها، كالعادة، بين مناصر لهذا الحكم، يرى فيه بوابة أمل صغيرة على طريق العدالة المرجوة في سوريا، ولأنّ المجرم يجب أن ينال جزاءه بغض النظر عن تموضعه السياسي، وبين معارض للحكم بحجة أن الثورة تجب ما قبلها، أو أن العدالة الحقيقية تكون بمحاكمة رأس النظام ورموزه، أو بحجة أن هذا الحكم يوجه رسالة لكل من بقي مع النظام بأن لا يفكر بالابتعاد عنه ويبقى في حضنه الآمن، وهنا أتساءل، إن لم نتفق كسوريين على حكم محكمة أوربية محايدة لا علاقة لها بطرفي أو أطراف المقتلة السورية، كيف سنتفق مستقبلاً على الأحكام التي ستصدر بحق كل متهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، ولا سيما إن كانت المحاكم السورية أو القضاة السوريون هم من سيتولون النظر في تلك القضايا أو في قسم منها على الأقل؟ هذا إن كُتب لنا أن نرى مسار العدالة الانتقالية والمحاكمات العادلة يشق طريقه في سوريا الجديدة التي ينتظرها كل متعطّش للحق والعدالة والحرية.
بعيداً عن هذا الجدل وتداعياته كما قلنا، أودّ التركيز على ما ورد في الحكم المذكور بخصوص التثبت من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من قبل أجهزة الأمن السورية منذ بدايات الثورة، حيث ورد فيه، بأنه "منذ انطلاق الاحتجاجات في سوريا عام 2011، تم تشكيل "خلية مركزية لإدارة الأزمة"، وكانت تخضع مباشرة لرئيس الجمهورية بشار الأسد، وكانت تقوم بإصدار الأوامر والتعليمات لكافة الأجهزة الأمنية لاتخاذ الإجراءات المطلوبة لقمع الاحتجاجات بقوة السلاح ومهما كان الثمن، وقامت تلك الأجهزة بسحق الاحتجاجات باستخدام أسلحة نارية مميتة، وتم اعتقال أعداد كبيرة من المعارضين للنظام أو ممن يشتبه بكونهم من المعارضين، وكانوا يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة، بدون الاستناد إلى قضية أو إجراءات قضائية، وهذا العنف لم يستخدم بصورة فردية وعرضية وحسب، بل استُخدِمَ في إطار استراتيجية شاملة للنظام".
إذاً، ثبت بحكم قضائي محايد ارتكاب رأس النظام السوري وأجهزته الأمنية لجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري. قد يتساءل البعض عن الجديد في هذا الأمر، فالغالبية العظمى من السوريين، ولا سيما الضحايا وذويهم، يعلمون علم اليقين بأن النظام السوري وزبانيته ارتكبوا أفظع الجرائم وأشنعها، وتم توثيق الغالبية العظمى منها من قبل منظمات حقوقية يتمتع بعضها بدرجة عالية من المصداقية. نعم، نعلم بأن هذا النظام ارتكب من الموبقات والجرائم ما يعجز اللسان عن وصفه، والقلم عن خطِّه، لكن العلم وحده لا يكفي، كما إن تقارير المنظمات الحقوقية السورية والدولية قد تكون محلاً للانتقاد والأخذ والرد من قبل النظام السوري ومناصريه، دولاً وأفراداً، سيما وأن التوثيق المنظماتي يعتمد في أغلب الأحيان على الاستماع لأقوال طرف واحد، الضحية على الأغلب، ناهيك عن اتهامها من قبل البعض بأنها مسيَّسة وخاضعة لإرادة وتوجيه الجهة الممولة، وعلى الأخصّ عندما يكون تقرير هذه المنظمة أو تلك ضد مصلحة الطرف المنتهِك وفق تقرير المنظمة، وأياً كانت قوة التقرير أو التوثيق الصادر عن المنظمة، وأياً كانت درجة المصداقية التي تتمتع بها المنظمة فإنها لن ترقى لمرتبة حكم قضائي عن محكمة غير مشكوك في نزاهتها، وناقشتْ ومحَّصتْ أدلة الطرفين، الادعاء والدفاع، وهذا ما سيجعل الحجج المملة التي يتحفنا بها النظام عقب كل تقرير حقوقي يدينه ضعيفة وسمجة.
لا أقصد بهذا الكلام التقليل من الجهود التي تقوم بها المنظمات الحقوقية بخصوص التوثيق، بل على العكس، فهذه التوثيقات تساعد الضحايا على عدم ضياع الأدلة مع مرور الوقت، وهذه الأدلة يفترض أن تعرض على المحاكم التي ستنظر في قضايا السوريين الذين عانوا من أتون هذه الحرب المستعرة لأكثر من عقد من الزمن، وستتم مناقشتها من قبل المحكمة، مثلها مثل الأدلة الأخرى التي ستقدم لها، وفي النهاية قد يتم إهمال هذا التوثيق أو ذاك، إن تم نقضه وإثبات عكسه من قبل الطرف الآخر، أو كانت تفتقر لمعايير التوثيق المتعارف عليها، أما أحكام المحاكم ستكون غالباً بعيدة عن هكذا احتمالات.
بالعودة إلى موضوع ثبوت ارتكاب نظام الأسد وأجهزته الأمنية لجرائم ضد الإنسانية قضائياً، يفترض أن يشكل هذا الحكم سدّاً منيعاً يحول دون محاولات بعض اللاهثين لتسيير قطار التطبيع مع هذا النظام، ولا سيما بعض الدول العربية، كالإمارات، وكذلك يجب أن يقطع الطريق أمام دعوات بعضها الآخر لعودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية، وعلى رأسها مصر، على لسان وزير خارجيتها، سامح شكري، وكذلك سلطنة عمان والجزائر والعراق، وبالطبع لبنان، الخاضع لهيمنة الولي الفقيه عبر ذراعه حزب الله، فمن المفترض، أخلاقياً وقانونياً، أن يُسكت هذا الحكم تلك الألسنة، كما ويفترض أن يلجم مساعي البعض بضرورة إعادة تعويم النظام الأسدي، وتخفيف العقوبات عنه، خاصة تلك المفروضة من قبل الولايات المتحدة بموجب قانون قيصر.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، هل المعارضة السورية بكل أجسامها وهيئاتها وشخصياتها، ولا سيما الائتلاف السوري، ستتلقف هذا الحكم لإحراج المجتمع الدولي "المناصر لقضايا حقوق الإنسان"، ودفعه باتجاه المزيد من الضغط على الدول الحليفة لهذا النظام بضرورة التخلي عنه، وطرح مسألة إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية على الطاولة مجدداً بعد أن غابت عن أذهانهم لسنوات طوال، وتضييق الخناق أكثر على الأسد، ومنع محاولات إعادة تعويمه والتطبيع معه، أم إن هذا الأمر ليس في مصلحتها (المعارضة)، كونها منشغلة بخلافاتها البينية وتتخوف من فقدان الفتات الذي يتساقط عليها أحياناً من على موائد الكبار؟.
قد يكون الموضوع أكبر من ذلك بكثير، سيما وإن قادة الائتلاف وحكومته المؤقتة وجيشه الوطني، المتهم بارتكاب جرائم لا تقل فظاعة عن تلك التي ارتكبها نظام الأسد، قد يتلمسون رؤوسهم ويساورهم الشك والخوف بأنه كما تمت محاكمة رجال الأسد المتورطين بارتكاب الجرائم، من الممكن أيضاً أن تتم محاكمة قيادات وأفراد من الجيش الوطني التابع لهم، وكما ثبت قضائياً ارتكاب رأس النظام لجرائم ضد الإنسانية من خلال مسؤولية القائد القانونية عن أعمال مرؤوسيه، من الممكن أيضاً أن تثبت مسؤولية الائتلاف وحكومته المؤقتة لجرائم وفظاعات نُسبت إلى الجيش الوطني التابع لهما، وما يدعونا إلى هذا التساؤل هو سكوت الائتلاف السوري وعدم تعليقه، سلباً أو إيجاباً، على هذا الحكم.
ليفانت - رياض علي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!