الوضع المظلم
الأربعاء ٠٨ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
نحو استعادة الشأن العام
أسامة هنيدي

"إذا ماسُئلت: هل الشعب جدير بأن يكون حراً؟

أجيب سائلاً: وهل هناك فردٌ جديرٌ أن يكون مستبداً؟"

بهذا السؤال المضاد والذكي يفتتح خالد محمد خالد كتابه "مواطنون لا رعايا" باقتباس لعبارة جون راسل، الكتاب الصادر بطبعته الأولى في القاهرة عام 1951.

وربما تأتي أهمية طرح الكتاب من راهنيته التي ما تزال حاضرة في العديد من الدول، ومنها دولنا العربية، وربما كان هاجس الكاتب الأساسي هو تفعيل الطاقات الفردية ودعم الأنا مقابل الشمولية البغيضة التي كرستها أنظمة الاستبداد حتى تنهض تلك الأنا وتعبر عن مصلحتها الذاتية بالتوافق مع مصالح الآخرين ليتحول معها الفرد إلى مواطن لا أن يبقى ضمن دائرة الرعايا ومستبديها.

وكي تتم عملية التحول تلك لا بد أن يعاد الاعتبار للشأن العام وكسر تلك الصورة النمطية التي تعتقد أن هذا الشأن هو حكر على فئة ما، وخاصة في بلدان الاستبداد.

فما هو الشأن العام، ومن يتعاطاه، ومن له السلطة والصلاحية بتحديد من يتعاطى أو لا يتعاطى في الشأن العام؟

مع نشوء الدولة الحديثة، تم تجاوز الكثير من المفاهيم الكلاسيكية، فلم يعد مفهوم الدولة هو نفسه ذاك المفهوم، ولا الديمقراطية اليوم تشبه الديمقراطية كما تصورها اليونان، ولذلك فمن الطبيعي أن يتغير أيضا مفهوم الشأن العام. إن الشأن العام هو الشأن الذي يطال كل تفاصيل حياة الكائن الاجتماعي، بدءاً من رغيف خبزه مروراً بحقوقه وصولاً إلى تعاطيه مع معاهدات مكانه وزمانه، وهو هنا (دولته) وما بينهما.

ولعل ما يطلق عليه تعبير التصحر السياسي الدقيق، الذي بموجبه حرم نظام الاستبداد كل الناس من ممارسة الشأن العام، أي مرة أخرى كل ما من شأنه المسّ بوجودهم كبشر، من الحاجات البيولوجية إلى الاجتماعية والنفسيّة وصولاً إلى السياسية، أقول لعلّه فرض نفسه وبقوة خلال حراك السويداء الأخير، لتبرز جملة من المواقف التي تعيد إنتاج خطاب الاستبداد من موقع المعارضة هذه المرة بحجة وجود بعض العناصر غير المنضبطة تارة، ووجود راية دينية تشبه حاملها المنتفض بشعارات وطنية بامتياز، وكأنه ليس جزءاً من هذا المجتمع الملدوغ بلدغة الاستبداد تارة أخرى، ومرة ثالثة عبر لومه على التأخر في اكتشاف الغشّ التاريخي الذي عاشه دون أي ملاقاة عملية لجهده وخطابه ومغامرته.

ولطالما سمعنا عبارة "فلان يتعاطى في الشأن العام" للدلالة على انخراط مجموعة من الناس في قضايا تتجاوز ذواتهم، لكن هذه العبارة لم تكن دقيقة لناحية الاستخدام، وعلى سبيل المثال موقف الوجهاء الاجتماعيين والزعامات التقليدية، والتي بغضّ النظر عن تباين مواقفها من الثورة السورية، إلا أنّها في التحليل الأخير كانت تتعاطى مع الشأن العام من مواقع غير ديمقراطية وما قبل وطنية في الغالب الأعم، على عكس ما يعنيه التعاطي في الشأن العام بمعناه الحديث، والذي يفترض الاثنين معاً، أي المواطنة بمعناها الحقوقي والديمقراطية بمعناها الواسع، ولعل هذا ما جعل أنظمة الاستبداد وعبر سنوات حكمها تكرّس ممثلي ذاك النموذج فيما عرف بصيغة "الديمقراطية الشعبية" التي مكّنت الكثير من الجهلة من الدخول إلى المكان الأرحب لممثلي الناس، أي القبة البرلمانية، والتعاطي الديكوري مع الشأن العام، ومن منا ينسى حديث ذياب الماشي، عضو مجلس الشعب السوري، لفترة قاربت الخمسة وخمسين عاماً في الفيلم الذكي الذي حققه المخرج السوري الراحل، عمر أميرالاي، والذي حمل عنواناً تنبئياً "الطوفان".

فإذا أضفنا لكل ذلك انكفاء الأغلبية الساحقة عن التعاطي في الشأن العام، هذه الأغلبية التي تصرخ فئة منها اليوم بعد إحساسها بالانعدام الكامل لمقومات حياتها ووجودها الحر والكريم، وإذا أخذنا أيضاً بعين الاعتبار الفشل الذريع للأحزاب التقليدية والهياكل السياسية المعارضة بفعل ارتزاق جزء منها وغباء جزء آخر وسيطرة سدنة الدين الموازي من الإخوان الظلاميين عليها وتهجير القوى الشابة خارج البلاد، كل ذلك لا بد أن يفضي إلى تحرك القاع، والذي وإن كان محدود العدد، وهنا لا بد من الإشارة أنّ التحفظ على مشاركة رجل الدين في الشأن السياسي المباشر لا يلغي حقه في التعبير عن رأيه بوصفه جزءاً من كل يقع عليه كل ذلك الحيف وكل تلك المظلومية.

في المحصلة، فإنّ استعادة الشأن العام إلى موقعه الأصلي، أي اهتمام الناس بكل ما يتعلق بشؤون دنياهم، مسألة غاية في التركيب، إذ تتداخل فيها مجموعة من العوامل، وتحتاج في رأيي إلى فترة طويلة كي يتم التعاطي معها، ومقدمات هذه العودة تكمن في الحالة التربوية الموزّعة بالدرجة الأولى بين الأسرة أولاً والمدرسة لاحقاً، في ظل مناهج مستقبلية تعطي الاعتبار لتربية الأنا ومن ثم تخرجها بتدرج سليم نحو الآخر والبلاد، وربما الأمم، أما إصرار أنظمة الاستبداد على ذلك فأمر لا يرجى أو يؤمل تغييره، ولكنه بهذا الإصرار وغيره من الممارسات إنما يحفر قبره بيديه ولو بعد حين.

 

أسامة هنيدي

ليفانت - أسامة هنيدي

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!