-
من هرمنا إلى قرفنا.. عقدٌ من جدران برلين
عشر سنوات مرّت، ولليوم جدار برلين الشرقي -والشرق هنا هو موطننا نحن لا إشارة لألمانيا السابقة غرباً وشرقاً- يقف حاجزاً بين الحرية والاستبداد، بين الدولة العصرية والدول الفاشلة المتآكلة والمنهدمة على ذاتها، بين التطلّع للسلام والحق والعدالة وتكريس الظلم الجماعي والموروث وحكم التاريخ العفن فينا.
عشرة سنوات مرّت على كلمات الشاب التونسي، التي أرّخت هروب زين العابدين بن علي، أول رؤساء الجمهوريات، الذي تهاوى أمام زحف الربيع التونسي، إبان بواكير الربيع العربي الذي افتتحه التونسيون، في موقعة مذهله عالمياً وهو يردّد "الحرية ونواسة، بان عليها يا رب"، ويبدو أنّ الله له مشيئة وقدر آخر.
عشر سنوات مرّت على جملة "هرمنا" لأحد الحنفاوي التونسي، التي تختزل تاريخنا السابق، واليوم نردّد نحن "قرفنا"، مختزلة حاضرنا الدامي الحالي، والذي أتى على كل الرحلة السابقة من الثورة والحريات وكأنها كانت قبض ريح.
لقد استبشرنا بموجة ربيع عارمة اجتاحت دول المنطقة العربية، ونحن نردد: طال انتظارنا لتلك اللحظة الفاصلة في تاريخ هذه الأمة الغارقة في بحر من الظلمات من نماج الاستبداد الشرقي: العسكري، الأمني، الديني، الأيديولوجي، العرف والتقليد المترهل، والثقافة المنطوية على ذاتها لا تملك سوى التفاخر بماضٍ مجيد ولّى زمنه ومضى، كاجترار الشاة لطعامها دون إنتاج حليب.
من هرمنا عنوان للحرية وثورة الشعب تجتاح الساحات والمدن والأرياف وتدكّ كل صنوف الاستبداد، عنوان لحكم الشعب والديموقراطية، عنوان للوجود العصري والمكانة التي تليق بالشباب العربي، بإمكاناته المبدعة وحلمه بالدولة العصرية، دولة الحق والقانون والفرص المتكافئة في العمل والبحث العلمي والحياة الآمنة الحرة والكريمة.. ولك أن تعدّ كل صفات وميزاتها تلك التي ينعم بها غيرنا ومحرومة عنا لليوم، دون أن تنتهي منها تفصيلاً وتحريراً.
إلى قرفنا، والقرف شدّة الاشمئزاز ودوام التعامل مع المكروه عنوةً، فقد قرفنا طول المدة ووجع المظالم المتراكم يوماً وراء يوم، قرفنا تكريس القوة والبلطجة العسكرية وامتداد عصر الدويلات والإمارات القزمة، واحتراب الكل ضد الكل، قرفنا مدى الاستثمار في ملفات حياتنا السياسة، دولياً وعالمياً وحقوقياً، قرفنا التسويف والتأجيل ومسار "الجنيفات" و"الأستانات" و"السوتشيات"، ولقاءات القمم العربية والأممية الخرندعية.
قرفنا التنافس المريض على مقعد هنا ومقعد هناك، عن سطوة هنا وحكم هناك ولو على عرش من الجماجم، أو على بئر بترول، أو مجرد بقعة من الأرض بحكم سلاح صدئ لا يتقن إلا لغة القتل وحسب، تعبيراً عن رغبة خصاء مرة أو استمناء في أخرى في تقديم موقع سين أو عين من جهابذة السياسة الذين لا يتقنون سوى دور الضحية أو عظمة القيادة التاريخية في الحكم سواء لسلطة قائمة بوسخها التاريخي أو بديلاً عنها تشبهها مكنوناً ومضموناً ولا تختلف عنها سوى شكلاً، وكأنّ امتلاء الساحات العربية بملايين الشباب كان ليصل فلان للحكم دون غيره، وكأنّه هو المنقذ والمسيح المخلّص لهذه الأمة من أوجاعها، ناسياً متناسياً أنّ الشعب أرادها قوة الحياة الشعبية في تعاقدها على العمل الجماعي والقدرة العامة والإرادة الجمعية، وليست أبداً على مقياس فرد هنا، أو جماعة هناك، أو حزب وحيد كبر أو صغر حجمه بمكان ما هنا أو هناك، فقرفنا منهم جميعاً.
قرفنا حواجز برلين متعددة الجدران: حاجز أول بين الاستقرار والفوضى، والذي إن كان مولّده الأساس إيجابياً في تعميم فكرة الثورة، لكن لم يتشكّل لليوم جسر وطني سياسي واقتصادي وعلمي يمكنه العبور من هذه الفوضى للاستقرار والدولة.
حاجز ثانٍ بين الحرية وشدة الخوف والرعب منها بعد سلسلة كوارثنا السياسية ومحاولة كل فريق منا الاستئثار بالحكم منفرداً.
حاجز ثالث ورابع.. من نظم العسكر وما استدعته من تدخلات واحتلالات خارجية مباشرة وغيرها، تمنع وتحبس عنا التواصل والاستمرار.
حاجز بين دولة المواطنة، والمواطنة صفة الفرد ومحدداته السياسية والقانونية دون تمييز سوى بالكفاءة العلمية والعملية، وبين دولة "المسلمين"، دولة "العلمانيين"، دولة الدروز، الماركسيين، القوميين، دولة العدالة التصالحية و"تبويس الشوارب" لشبهة كذبة سميت مجتمعاً مدنياً فضاً، أثبت أن لا علاقة له بالمدنية لا من قريب ولا من بعيد، وكأنّنا نحن لم نكن مدنيين يوماً.
نحن الذين قرفنا من شدة التأويل والتفسير السياسي والديني، من حرج اللغة وتعدّد المسارات والتشتّت والتحاجز بيننا.. نحن المدنيين محبي العلم والحياة والفيزياء، فالفيزياء حصراً ليست حل معادلات وشطارة مسائل، ليست لغة آلة صماء ودوران رحى حروب، ولأنّ الفيزياء عندي حياة مختلفة، فلسفة الكون الأنيق أكررها ألفاً: الفيزياء هي أن تعدّ أوتار الكون وتراً وتراً، وحين تكتفي من الأحد عشر منها تنتج لحنك، حرفتك، الوتر الثاني عشر المفقود وتردد خطبة الهندي الأحمر لدرويش: "سنحيا.. فأنا هندي أحمر آخر يا الله:.
هي أن تراقص كتل النجوم بكبر حجمها والكواركات بصغرها ولا مرئيتها بآن، أن تبحر في عشق نساء الكون ووجوه الأطفال، أن تعيد جبل لغتك في محنة السوريين، وأن تتخلص من عبء المادة المزيفة والمصالح القزمية وتصبح موجة سلام ومحبة وحرية ترسلها في كل أبعاد الكون والزمان.
أين أنت يا الله من ألمنا؟ من صقيع أنامل أطفالي في المخيمات، في دول الشتات، في بحر يتّسع لظلمات ودوامة الهدر اليومي لكل جميل منا، أن تحيل قوانين الكمّ إلى لغة العصافير فيطرب قلبك وتطرب أمك والفلاح وعامل النظافة وستيفن هوكنغ بذات اللحظة، أن تحقق العدالة فعلياً، لا أن تجعلها شعاراً سياسياً تصالحياً يعفّ عن الجاني ويبثّ فينا الشفقة، فنحن لا نحتاج العدل شفقةً بل وجودي وكرامة حياة.
أن ترشق الكون بكلمة حب تستحيل جبلاً من الابتسامات والأحضان، جبلاً يحنو على أوجاع الأمهات ومعتقلي الرأي وحرية الكلمة، يعطف على الأنوثة المهدورة، ديناً وتقليداً، فيعقد الخصب صفقة مع السنونو وطائر النعام.
هل شاهدت تزاوج نعامتين يلوحان برأسيهما كترابط الزمان والمكان في إبداع أناقة الكون وجمال الطبيعة، أرشقها جملة حب بعد قرف، ودعها تكون حرية بعد هرم، ومن بعدها دع الوجود يسأل كيف تصير، وينسى ذاك السؤال الرهيب لماذا نموت أحياء يا الله؟
أرشقها بعد قرفٍ حيث بقاع الكون، حيث كل مظاليم الأرض، كل السوريين وقد ملؤوا شتات الأرض، ثم واملأها سلام وحياة.
صديقي التونسي، المصري، الجزائري، الليبي، اليمني، العراقي، اللبناني، السوداني، صديقي العربي والأجنبي، ويا ابن جلدتي السوري، دعني أبثّ لك سراً: لا تصدّق أن قرفنا من نغمة الحرية وإمكانها، ولا من حلم الدولة وعصريتها، ولا من شغف العدالة وثمارها، بل هرمنا فقط من سماكة جدراننا وانسداد آذاننا من أن نسمع او نفهم بعض، وكلي يقين أنّنا سنهدم جدران برلين كما فعل الألمان ذات يوم، بين اشتراكي وليبرالي، إذا ما بدأنا العام /21/ بذات النغمة التي جمعتنا قبل عقد من الآن، ولكنها ستكون بأيدي جيل لا يشبه أمراضنا السياسية والدينية والإفكيه والأيديولوجية، جيل انتزع شبه السلطة وشهوة الحكم ووهم أنّه الأقدر وحسب من فكره وروحه، وامتلك جرأة المشاركة والتشارك ووحدة المصير: حرية وكرامة وعدالة وحقوق وقانون.. حينها فقط سنهدم جدران برلين.
ليفانت_ جمال الشوفي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!