الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٧ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • مصير الوجود الإيراني في سوريا على ميزان المصالح الروسية

مصير الوجود الإيراني في سوريا على ميزان المصالح الروسية
مصير الوجود الإيراني في سوريا على ميزان المصالح الروسية

موسكو - طه عبد الواحد


أثارت أنباء عن صفقة عرضتها الولايات المتحدة على الروس، بأن يساهموا في إبعاد الإيرانيين عن سوريا مقابل اعتراف أميركي بشرعية الأسد، موجة جديدة من التساؤلات حول مصير العلاقات الروسية –الإيرانية، واحتمال أن تتخلى موسكو عن طهران ضمن صفقة معينة مع الغرب. ومع نفي روسيا تلك الصفقة، إلا أن هذا لا يعني أن الأميركيين لم يقوموا بطرحها. إذ تنطلق الولايات المتحدة في اقتراحات كهذه من إصرارها على محدودية الدور الروسي، وإمكانية إغراء موسكو بالحفاظ على مصالحها في سوريا وحتى على نظام حكم الأسد، مقابل إبعاد إيران عن سوريا. بيد أن الروس، كما تشير ممارساتهم على الأقل، ينظرون إلى الأمر بطريقة مغايرة تماماً، وينطلقون في ترتيب علاقاتهم مع طهران، وكذلك دول أخرى تصنفها الولايات المتحدة "مارقة"، من قناعتهم بضرورة إعادة ترتيب شاملة للمشهدين الإقليمي والدولي، وبما يضمن لهم الإمساك بأوراق رابحة في المواجهة الاستراتيجية.


تريد الولايات المتحدة، أو على الأقل تقول أنها تريد، تحجيم النفوذ الإيراني بشكل عام، وفي الحديث مع روسيا تركز هي وإسرائيل على إبعاد الإيرانيين خارج الأراضي السورية. موسكو ترى أنها قامت بالمهمة المطلوبة منها حين أبعدت الإيرانيين والميليشيات الطائفية التابعة لهم مسافة 100 كم عن الحدود السورية مع الكيان الصهيوني، وترفض حتى الآن القيام بأكثر من ذلك، وتحيل مسألة بقاء إيران في سوريا إلى العلاقات الثنائية السورية-الإيرانية. لفهم هذا الموقف الروسي لا بد من وضع بقاء إيران في سوريا أو إخراجها منها على يد الروس في ميزان "المنفعة والضرر" بالنسبة للسياسات الروسية.


إيران في سوريا"بوابة" الحلم الروسي بدور في التسوية الشرق أوسطية

على الرغم من خلافاتها داخل سوريا مع الإيرانيين، إلا أن روسيا على ما يبدو ليست مهتمة بإخراجهم من هناك بشكل تام، وهذا يعود إلى جملة أسباب. إذ تبقى إيران حتى الآن الدولة الوحيدة المحسوبة على معسكر "أصدقاء" أو "حلفاء" روسيا، التي تشارك قواتها ميدانياً في القتال إلى جانب الروس دعماً للنظام السوري. ومع أن إرسال إيران قواتها وميليشيات تمولها إلى سوريا لم يأت تلبية لطلب روسي، إلا أن روسيا تستفيد من ذلك الوجود العسكري، إن لم يكن لدعم العمليات العسكرية، فعلى الأقل لكسر عزلة الانخراط العسكري الروسي في الأزمة السورية، لاسيما بعد بقاء دعواتها لدول حليفة أعضاء في منظمة الأمن الجماعي، مثل قرغيزيا وكازاخستان، وحتى أرمينيا، لإرسال قوات "للمشاركة في عمليات إنسانية" في سوريا، دون استجابة من تلك الدول. كما لم تتحرك أي من الدول التي تحظى بدعم روسي غير محدود، مثل فنزويلا وكوبا، أو شركاء استراتيجين لها مثل بيلاروسيا أو الصين، لإرسال قوات ولو بشكل رمزي إلى سوريا.


إلا أن روسيا حصلت من خلال تمسكها بالوجود الإيراني في سوريا على "ثمار" سياسية، تتجاوز جغرافيا الأزمة، وذلك عندما ساهم ما يُزعم أنه "تهديد إيراني لأمن إسرائيل عبر الأراضي السورية"، في تحقيق روسيا هدفاً قديماً من أهداف سياستها الخارجية، أي أن تتمكن من لعب دور مؤثر في ملفات الشرق الأوسط، ما يعني بالتالي استعادتها الدور الإقليمي لروسيا السوفياتية. إذ كان الدور الإيراني في سوريا، ولا يزال سبباً رئيسياً أجبر تل أبيب على التوجه نحو موسكو، والانفتاح على حوار معها، وإطلاق تعاون يرضي المسؤولين الروس، بعد سنوات واجهوا فيها رفضا إسرائيلياً لأي تدخل من جانبهم في شؤون المنطقة.


الرفض الإسرائيلي للدور الروسي في شؤون الشرق الأوسط، برز جلياً حين رفض شارون عام 2005 مبادرة عرضها بوتين من القاهرة، خلال محادثات حينها مع الرئيس حسني مبارك، حول عقد مؤتمر في موسكو لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي. ومنذ ذلك الحين لم تطرأ تحولات جدية على الموقف الإسرائيلي إزاء مساعي روسيا للعب دور في التسوية، وتمسكت تل أبيب دوما بدور الولايات المتحدة وحدها، إلى أن بدأت الأزمة السورية، وما ترافق معها من فوضى أمنية، ومن ثم والأهم، دخول إيران، صديقة روسيا، على خط الأزمة عسكرياً. ضمن هذا الوضع أخذ المسؤولون الروس يؤكدون حرصهم على أمن إسرائيل، واستفادوا من الوجود العسكري الإيراني في قلب جوهري لعلاقاتهم مع إسرائيل، بما يخدم بالدرجة الأولى مصلحة روسيا في التحول إلى لاعب رئيسي في هذا الملف المعقّد للغاية، تأخذ جميع الطراف المعنية مواقفه بالحسبان، وتلجأ إليه طلباً للمساعدة بشكل مستمر. هذا التطور الإيجابي في العلاقة مع تل ابيب، مهّد الأجواء أمام تفعيل الدور الروسي في تسوية النزاع العربي-الإسرائيلي، وبهذا تبدو إيران بمثابة بوابة روسيا لاستعادة دورها في هذا الملف.


ثمار إقليمية لعلاقات موسكو مع طهران

مثل هذا الموقف الروسي من الوجود الإيراني في سوريا يساهم في الوقت ذاته في تعزيز العلاقات مع طهران، مع ما يحمله هذا من تعزيز للدور الروسي في ملفات إقليمية أخرى، مثل الوساطة لاحتواء التوتر في منطقة الخليج العربي، إن كان لجهة التوتر في علاقات إيران مع دول الجوار، أو لجهة توتر علاقتها مع دول الغرب عموماً على خلفية ملف البرنامج النووي الإيراني، ووصولاً إلى التصعيد بعد القرصنة الإيرانية في مضيق هرمز. وتنطلق روسيا في استعادتها دورها الإقليمي من مبدأ "علاقات جيدة مع الأطراف المتنازعة" بما يسمح لها بلعب دور الوسيط. وهي تأمل أن تساهم علاقاتها المميزة مع إيران، في الوقت الذي اتجهت فيه جميع الدول العربية المطلة على الخليج العربي نحو تعزيز العلاقات معها، في منحها ذلك الدور. ويبدو أنها بدأت تتحرك في هذا الاتجاه، حين عادت أخيراً وطرحت عقيدة "الرؤية الروسية للأمن الجماعي في منطقة الخليج العربي"، وتعمل حالياً على تسويق تلك الرؤية، أي أنها دخلت فعلياً كلاعب مهم إلى المنطقة من أوسع الأبواب. ناهيك بأنها تعمل عبر طرح تلك الرؤية على تقديم نفسها كبديل عن الولايات المتحدة لضمان أمن واستقرار المنطقة التي تبقى منذ عقود طويلة منطقة نفوذ أميركي.


إيران خط إمداد خلفي لروسيا على المتوسط في اللعبة الكبرى

أهمية موقع إيران في سياق المواجهة الاستراتيجية بالنسبة لروسيا، نقطة ثالثة لا بد من وقفة عندها خلال الحديث عن احتمالات مضي موسكو في خطوات ترمي لإخراج الإيرانيين من سوريا وبالتالي تخريب العلاقات معهم. بعيداً عن تعقيدات الملفات الإقليمية، تشعر روسيا بضغط متزايد عليها من جانب الغرب، كانت بداياته من توسع الناتو شرقاً، ومن ثم انهيار معاهدات شكلت على مدار عقود "حجر أساس" للأمن الاستراتيجي، وساهمت في تنظيم العلاقات الأميركية –الروسية، مثل معاهدة القوات التقليدية في أوروبا، ومعاهدة الأنظمة الصاروخية المضادة للصواريخ (الدرع الصاروخية) وأخيراً معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى. وتتصاعد حدة التوتر استراتيجياً بين روسيا والولايات المتحدة نظراً لضبابية الموقف الأميركي من أهم معاهدة تسلح، هي معاهدة تقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية (الأسلحة النووية)، المعروفة باسم "ستارت-3"، والتي وقّع البلدان آخر تمديد لها لمدة 10 سنوات، في عام 2000، وتشعر روسيا بالقلق إزاء "فتور" أميركي في المحادثات بشأن تمديدها لعقد آخر من الزمن، وتحذّر من أن انهيار هذه المعاهدة سيُعيد العالم إلى سباق التسلح، فضلاً عن انهيارها سيطلق يد الجانبين في نشر الأسلحة النووية في أي مكان في العالم دون أي قيود.


وإذ يكشف هذا المشهد الاستراتيجي المعقّد حاجة روسيا بقواعد على المتوسط، حصلت عليها أخيراً من نظام الأسد مقابل دعمها له، وتشكل من وجهة نظر التنافس مع الأميركيين خطاً متقدماً يشرف على المتوسط حيث ينتشر الأسطول السادس، فإن هذا المشهد ذاته يجعل روسيا حريصة على تعزيز علاقاتها مع إيران، وأن لا تضحي بها في أول صفقة، لا تتعدى حدود "تعقيدات إقليمية". وأهمية إيران في هذا كله تنبع من موقعها الجغرافي، حيث تحصل روسيا، عبر إيران، على "نفوذ غير مباشر" في منطقة الخليج العربي، وعلى مضيق هرمز، المعبر الذي يشكل أهمية كبرى للاقتصاد العالمي، وممر رئيسي للنفوذ الأميركي في المنطقة. من جانب آخر فإن إطلالة إيران مع روسيا على بحر قزوين، وارتباطها برياً مع سوريا عبر العراق، يمكن أن يشكل بالنسبة للروس "ممراً" آمناً لتوفير الدعم الضروري للقواعد العسكرية الروسية في سوريا، بحال تعذر توفيرها عبر البحرين الأسود والمتوسط. بهذا المعنى تشكل إيران خط إمداد خلفي للقوات الروسية على المتوسط.


لذلك يرجّح أن تتجنب روسيا الانجرار نحو إبعاد الإيرانيين بشكل تام من سوريا، إرضاء للأميركيين والإسرائيليين، وأغلب الظن أنها ستكتفي بالتدابير المحدودة التي نفذتها حين أبعدت القوات الإيرانية عن الحدود السورية مع الكيان الصهيوني، وربما تستفيد أحياناً من الموقفين الأميركي والإسرائيلي لتقليص مساحات وحجم الدور الإيراني في سوريا، وربما تدفع نحو خروج عسكري لإيران مقابل "بقاء" اقتصادي في سوريا. ومع ذلك تبقى الاحتمالات كلها قائمة في عالم السياسية الذي لا يخضع دوما بالضرورة للمنطق.


مصير الوجود الإيراني في سوريا على ميزان المصالح الروسية


مصير الوجود الإيراني في سوريا على ميزان المصالح الروسية


مصير الوجود الإيراني في سوريا على ميزان المصالح الروسية

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!