الوضع المظلم
الجمعة ٠٣ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
مراسيم ووقفات تضامنية وشعب مقهور
آدم قدرو  

أحاديث السوريين اليوم لا تخرج عن عدة مواضيع أهمها فصل الشتاء الذي تم وصفه بالأقسى والأطول منذ عقود خلت، أو عن ارتفاع الأسعار غير المسبوق وضعف القيمة الشرائية للراتب، بحيث لا يستطيع المواطن أن يأكل فلافل ولا شيء غير الفلافل.

عند البقال تسمع همهمات وعبارات الذهول من بعض الرجال والنساء ومقارنات بين أيام احتدام المعارك وأيامنا، ليس من ناحية الأسعار وحسب، بل يضاف إليها نقص الغاز وقلة الكهرباء والمازوت الذي انتهى خلال أسبوع من المنازل، ومنهم أيضاً من يتحدث -على سبيل الدعابة- عن سعر الفروج واللحم الأحمر، أما من باب الرفاهية قد تسمع بعض الشابات والشبان يتكلمون عن ريال مدريد وبرشلونة وبعض الفرق الأوروبية ويختلفون فيما بينهم أيهما أفضل ميسي أم رونالدو، الأكبر سناً من هذه الفئة يشغلهم ركود سوق العقارات، المعروض أكثر من المطلوب -المعروض أسبابه مختلفة تبدأ بدفع المستحقات المالية المترتبة على أصحابها وتنتهي بفكرة السفر بحثاً عن مستقبل أفضل- ولهذا هم حائرون، أيبيعون منازلهم اليوم أم يبيعونها غداً؟

الشعب يدرك بدقة ما يعانيه من هموم ومشكلات، كالبطالة الحقيقية والبطالة المقنعة وسوء التغذية والفقر، وتراجع في قطاعات الزراعة والصحة والتعليم، أما العبارة السائدة كلما هطلت الأمطار: "الله يبعت الخير" لم تعد صحيحة، لأنه وعلى الرغم من كل الأمطار التي هطلت كيلو البندورة بـ 4000 ليرة سورية.

ضمن هذه الأجواء تسمع عن "وقفات تضامنية" مع دولة روسيا الاتحادية، وبالطبع كانت الوقفة عفوية قام بها الشعب في عدة محافظات، أولها في دمشق، بتاريخ 9 آذار، وآخرها في اللاذقية يوم 28 آذار.

هذه اللوحة جعلتني أعيد قراءة كتاب الدكتور مصطفى حجازي (التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكيولوجية الإنسان المقهور) بعد أن قرأته للمرة الأولى عام 2006.

بعد أربعين عاماً من صدور الكتاب 1976، وستة عشر عاماً من قراءتي الأولى له، أستطيع القول يبدو وكأنه كتب عام 2022.

استناداً للدكتور حجازي، يبدو الشعب السوري في مناطق النظام يعيش بالإضافة للاستلاب الاقتصادي والاستلاب الاجتماعي استلاباً نفسياً على المستوى الفردي (وبالتأكيد ليس كل إنسان يعيش في مناطق النظام ينطبق عليه هذا الوصف)، فالشعب الذي لا ينتفض لانعدام أبسط مقومات الحياة من ماء ودواء وغذاء ومسكن ولا يقف مع بعضه البعض في وجه آلة إجرامية تنتهك آدميته، هو إنسان مسلوب الإرادة.

العقود التي سبقت، كان بها الكثير من القمع والاستبداد والقتل والاعتقالات التعسفية، لكن العقد الأخير كان مكثفاً، فقد زاد عليه دمار المدن والمستشفيات والجوع، أفعال السلطة زرعت في وعي الجموع بأنهم ليسوا ناساً، بل أشياء تملكها العصبة الحاكمة وتتاجر بدمها، وفي أحسن حالاتهم كائنات هزيلة لا تهم أحداً.

هذا ما يفسر رضوخ الشعب واستكانته وإحساسه بالدونية، حتى كثيراً ما نسمع كلمات وعبارات مثل (نستحق كل ما يجري لنا، حرام عيشتنا، نموت أحسن...)، أما شماعة المؤامرة ومحور المقاومة والشعب الصامد وهذه التفاهات كلها لم تعد تذكر إلا للتندر والضحك في زمن عزّ فيه الضحك.  

وفي السياق نفسه، يمكن تفسير ظاهرة أبواق السلطة وشبيحتها وأزلامها ورجالات الدين التابعين لها، وصور الأسد وأخيه والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشوارع والسيارات والمقاهي، ونرى الكثير من مظاهر النفاق لم تكن حلقات الدبكة يوم مسرحية الانتخابات الرئاسية، في أيار العام الماضي، أولها، ولن تكون الوقفات التضامنية مع روسيا آخرها. هؤلاء يريدون ما يتكرم به السيد عليهم أو على الأقل أن يأمنوا شره.

السلطة، حتى إن كان أغلب الشعب الموجود ضمن سلطانها ينتمي إلى إحدى الفئتين السابقتين، لكنها تخشى من قلة قليلة ما زالت متمسكة بإنسانيتها، ليصدر رأس السلطة مرسوماً يرفع عقوبة كل من يذيع أنباء كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها إلى ستة أشهر، ويضيف بالمرسوم أن العقوبة نفسها يستحقها من يذيع أنباء من شأنها تحسين صورة دولة معادية للمساس بمكانة الدولة السورية، كأن يتعرّض للحبس من يقول إنّ معدل دخل الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من دخل الفرد في سوريا. لندرك أن هيبة الدولة لا علاقة لها بانقطاع التيار الكهربائي لأكثر من عشرين ساعة باليوم، أو بفقدان الأدوية من الصيدليات، الدولة عندما تحكم أناساً مقهورين محطمين لا يمسّ هيبتها إلا صرخة مواطن مجروح.

لكن المستبد لا يتعلم من التاريخ، ولست هنا بصدد ذكر أسماء الطغاة الذين سادوا ومن ثمّ رحلوا، وبقيت الشعوب.

أقتبس خاتمة لما سبق من كتاب الدكتور مصطفى حجازي (الصفحة 55) "ليس هناك لغة ممكّنة من لغة التسلط سوى لغة مماثلة للغتها، لغة القسوة لغة الغلبة. ومع ترسّخ اليأس من الحوار السلمي أو الرضوخ، يترسخ الإحساس بضرورة العنف وإلا تحول الشعب إلى ضحية دائمة ونهائية. نحن أمام الظاهرة التي يسميها علماء الأحياء برد الفعل الحرج والتي تتلخص في الخيار بين الفناء والمجابهة. وهي تلاحظ عند الإنسان أو الحيوان على حد سواء، فقد يستسلم الكائن الحي ويرضخ أو يهرب طالما برزت لديه إمكانية النجاة، ولكن عندما تنعدم هذه الإمكانية يتحوّل الضعف إلى قوة، يستجيب برد فعل حيوي، يعبّئ كل طاقاته ويكثّفها في دفاع مستميت عن وجوده".

ليفانت - آدم قدرو

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!