-
مراجعات ضرورية في ذكرى الثورة السورية
لاجديد في القول إنّ المصالح والصراعات الإقليمية والدولية في سوريا وعليها، وسلوك نظام الأسد وحلفائه في مواجهة الثورة السورية، وتخاذل "المجتمع الدولي" عن حماية المدنيين وردع آلة القتل، كلّها عوامل اجتمعت لتودي بسوريا وشعبها إلى مآلات لا صلة لها بالغايات التي من أجلها قامت الثورة. لكنّ تكرار هذه اللازمة عاماً تلو الآخر في ذكرى الثورة، وجعلها شمّاعة لتعليق الفشل، فيه تعامٍ عن دور العوامل الذاتية الخاصّة بالمعارضة السورية نفسها وخيارات فئات وازنة منها، لاسيّما الذين تصدّروا التمثيل الرسمي لها. فقد تكاملت خياراتهم مع التدخّلات الخارجية وممارسات النّظام، وساهموا في الوصول إلى المحصّلة الكارثية الحالية.
أصوات عالية في المعارضة الرسمية، راهنت باكراً على دعمٍ خارجيّ لإسقاط النظام، وكأنّ رغبتها تلك تكفي لجلبه، فإذا بقصر النظر السياسي، معطوفاً على دوافع أيديولوجية، يجعل من رهانها الموهوم ارتهاناً حقيقياً لبعض هذا الخارج. لم يعد النظام وحده ألعوبة بيد داعميه وسادته، من الروس والإيرانيين، فالمعارضة المعترف بها لها سادتها المتحكمون بها أيضاً. المشكلة أنّ ممثلي هذه المعارضة ليسوا في وارد التخلّص أو حتى التخفّف من علاقة التبعية والارتهان هذه، على ما تؤكّده الوقائع في "مناطق المعارضة" والتي تحتلّها تركيا في الشمال السوري. حتى المناطق التي تحكمها "قسد" وتتغنّى بتجربة "الإدارة الذاتية" فيها، ليست في الواقع أكثر استقلالية من غيرها، عن إرادة "خارج" آخر يرعى استمرار سلطة الأمر الواقع هناك.
حالة الرهان على الخارج، وإدارة الظهر للحراك الشعبي منذ أشهر الثورة الأولى، سعياً وراء "انتصار" سريع يصنعه الدعم الدولي، تكرّست بعد جنوح فئات من المحتجّين إلى حمل السلاح. ذلك أنّ ما بدأ دفاعاً مشروعاً عن النفس بشكل عفويّ أمام بطش قوّات النظام ومخابراته وممارساتها الوحشية، حوّله متنفّذو المعارضة إلى نزوعٍ منظّم نحو عسكرة الثورة، وتجيير العسكريين المنشقّين في هذا الاتّجاه، واستجداء السلاح والدعم من الخارج لتحقيق ذلك.
وللتذكير، قدّمت "العسكرة" للنظام فرصةً لالتقاط أنفاسه التي كادت تقطعها المظاهرات السلميّة، فالعنف كان ويبقى الميدان المفضّل لنظام إجراميّ مفلس أخلاقيّاً وسياسيّاً، في مواجهة مناطق طرده منها السكّان المحليون بتكافلهم وإمكاناتهم المتواضعة. وبعد أن كانت أخبار الفظائع والمجازر حكراً على قوات الأسد وأجهزته الأمنية طيلة مرحلة التظاهرات السلميّة، بدأت الأحاديث عن انتهاكات ارتكبها مجموعات من المعارضة المسلّحة بحق المدنيين في مناطق سيطرتها. ولم يكد يمضي عامٌ على ظاهرة "العسكرة" الطارئة على الثورة، حتى تكاثرت الفصائل الإسلامية وتسيّدت المشهد الميداني، وتردّد صدى أيديولوجيتها في الخطاب الإعلامي والسياسي للمعارضة. كما ظهرت اصطفافات ومناحرات بين الفصائل المقاتلة، تبعاً لخلفياتها الأيديولوجية ولإرادات الدول الداعمة، التي وجدت في المقاتلين الإسلاميين فرصةً للاستثمار أكثر من غيرهم، لحصد المكاسب على حساب السوريين وثورتهم.
إنّ طغيان الصبغة الإسلامية على الفصائل المسلحة وتدفّق الدعم إليها، أدى إلى انحسار "الجيش الحر" وتلاشي مجموعاته تدريجياً، بالتزامن مع تراجع الخطاب الوطني الجامع وعلم الثورة، لمصلحة خطاب دينيّ فئوي تظلّله رايات الفصائل الجهادية المختلفة. ولم تكن مصادفةً أن رأس النظام أصدر عفواً عاماً أطلق بموجبه سراح مئات المعتقلين الإسلاميين، بينهم جهاديون بارزون، من سجن صيدنايا، بينما كان التعذيب حتى الموت هو مصير المتظاهرين السلميين والنشطاء المدنيين. فحين تصدّر المشهد "مجاهدون" يعادون الديمقراطية ويكفّرونها، على حساب شبّان الثورة وشابّاتها من طلاّب الحرّية، تولّدت واحدة من أخطر مفارقات الثورة السوريّة، حيث أنّ خطاب الإسلاميين وسلوكهم الطائفي، حرفها في الاتّجاه الذي يخدم النظام.
لقد أدّى هذا التحول إلى عزوف قطّاعات متزايدة من الرأي العام، داخل البلاد وخارجها، عن تأييد الثورة الشعبية، بل ومعارضتها، بعد أن كانت معقد الأمل في الخلاص من القهر والاستبداد. وهنا استطاع نظام الأسد قلب المعادلة لصالحه، مستفيداً من سلوك خصومه المفترضين من "المجاهدين" أنفسهم المدعومين من الخارج، وما يرتكبونه ويفاخرون به من ممارسات. فقام بتنشيط شبكة هائلة من العلاقات العامة والضخّ الإعلامي لجعل "الحرب على الإرهاب" عنواناً أوحد لما تشهده سوريا، بما يعنيه ذلك من تعمية على إرهاب النظام ونهجه الإبادي بحقّ المدنيين، وتسويق نفسه حليفاً موضوعياً لكل من يريد "محاربة الإرهاب".
ولم تقتصر هيمنة الإسلاميين وعسكرهم على الميدان فقط، وإنما امتدّت إلى المسارات السياسية والتفاوضية، حيث فرضتهم الدول الداعمة خدمةً لأجنداتها لا للمصلحة السورية، مما أضعف تماسك وموقف الوفود التي تتحدّث باسم المعارضة، وسهّل على النظام وحلفائه تمييع "العملية السياسية" وإفراغها من مضمونها. تجلّى ذلك في اختراع مسارَي أستانا وسوتشي، ثم "اللجنة الدستورية". المفارقة أنّ تركيا التي لطالما ادّعت دعم الثورة السورية، والتي تتحكم اليوم بإرادة ما كان يوصف بأنه "الممثل الشرعي الوحيد" للثورة والمعارضة، أصبحت شريكاً أساسيّاً في المسارات التي صاغها حُماة الأسد، الإيرانيون والروس!
إنّ تجربة السنوات العشر المنصرمة، فيها من المعطيات ما يكفي لربط الخيارت الكارثية للمعارضة بثالوث "الإسلاميين" و"العسكر" و"الخارج" المتحكّم بهما. ورغم فشل متصدّري المشهد السياسي والميداني، من إسلاميي المعارضة وعسكرها والسائرين في ركابهم من "قوى ديمقراطية"، لايبدو أنّهم بصدد المراجعة أو التراجع عن سياساتهم البائسة. لا يعني هذا أنّ سلوكاً مختلفاً كان سيؤدّي بالضرورة إلى انتصار الثورة، غير أنّه كان سيقلّل من حجم الكارثة، ومن احتمالات تحوّل من زعموا أنهم ثوّار إلى مرتزقة مأجورين، يقاتلون في مشارق الأرض ومغاربها مقابل المال.
ينبغي التفكير مليّاً في مجريات السنوات الماضية لفهم أسباب فشل المعارضة، وتحديد المسؤولين عن هذا الفشل ومحاسبتهم سياسياً على الأقل. وإنّ فهم دور العوامل الذاتية في الوصول إلى النتيجة الكارثية مدخلٌ لازم لتجنّب تكرار الأخطاء، إذا ما كُتب للثورة السورية أن تستأنف مسيرتها مجدّداً.
ليفانت - طارق عزيزة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!