الوضع المظلم
السبت ٠٩ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
محاكمة لإسلام علوش!  أم محاكمة للثورة كلها ؟
كمال اللبواني

نحن السوريون من ضحايا الظلم الذي وقع علينا من النظام وحلفائه لا يمكننا إلا أن نكون مع العدالة بعد أن أصبحت هذه العدالة أداتنا الوحيدة في مواجهة من قتلنا ودمر بيوتنا وشردنا، فمطالبتنا بمحاسبة النظام لا تلغي محاسبة أنفسنا أيضاً، فالاحتكام للعدالة هو أفضل طريق لفض النزاعات واستعادة الحقوق وضمان عدم تكرار الجرائم، لكننا نشترط ألا تكون هذه العدالة استنسابية، وأن تطال جميع من ارتكب جرائم بحق الشعب بصفته الفردية أو الاعتبارية ( أشخاص ومنظمات وهيئات ودول في كلا طرفي الصراع ).




محاكمة إسلام علوش يجب أن تفهم وتوضع من قبل المعارضة في هذا السياق، فمن يطالب بمحاسبة النظام عليه أن يقبل المحاسبة أيضاً، فالثورة ضد الظلم لا تعطي الثائر حصانة ضد المساءلة وتطبيق العدالة. لذلك لا يجوز الاعتراض على المحاكمة، ولا التذرع بأن الثورة بلا رأس ولا قيادة وبالتالي تقع مسؤولية أي فعل شائن على من ارتكبه فقط طالما أن انتصاراته توضع في رصيدهم، فالمسؤولية عن الجرائم المنسوبة إليه لا تقع عليه وحده، فهو عضو في منظمة نطق رسمياً باسمها، ولها بنية تنظيمية عسكرية صارمة، وتحمل أيديولوجيا إسلامية ولها هيئات شرعية ، وقد شاركت بالثورة السورية وحكمت مساحة من الأرض لفترة زمنية طويلة، وكانت تحت مظلة هيئات المعارضة المتمثلة في الائتلاف، الذي اعترف به أكثر من مئة دولة رسمياً على أنه ممثل للشعب السوري وثورته، وشاركت هذه المنظمة (جيش الإسلام) رسمياً في هيئات ووفود التفاوض جميعها والمعترف بها دولياً، وبالتالي فكل هذه الهيئات تتحمل أيضاً المسؤولية عن التهم المنسوبة لإسلام علوش بصفتها الاعتبارية على الأقل،




أما نوعية التهم المنسوبة فهي لا تقتصر على خطف رزان زيتونة، بل تشمل نوعياً معها كل المدنيين الذين كانوا ضحايا الخطف والتصفية على يد النظام أولاً ثم المنظمات العسكرية المعارضة ثانياً، وهو ما كان يجرى على نطاق واسع في كل المناطق، فرزان هي رمز ونموذج عن كل هؤلاء جميعاً. أما تجنيد الأطفال وقصف المدنيين وتهجيرهم، والتطهير الطائفي والعرقي، واستغلال ظروف الحرب القاسية بأبشع الطرق فهي أيضاً (تهم عامة) لا تخص منطقة بعينها، أي أن محاكمة إسلام هي محاكمة نوعية عن كل تلك الممارسات، ولجميع من شارك فيها، والأحكام التي ستصدر عنها يمكنها أن تصبح سابقة حقوقية يعتد بها وتنطبق على البقية.


 

أما عن توزيع المسؤوليات فهي تقع أولاً على القادة قبل العناصر التنفيذية التي تأتمر بها، وهنا لا يمكن اعتبار جيش الإسلام جهة منفصلة عن بقية المعارضة لأنه كان عمليا جزءً مكوناً لها بدلالة مشاركته في الائتلاف بشخص محمد خير الوزير، ومشاركته بوفود التفاوض التي شكلها الائتلاف وهيئة التفاوض العليا بشخص محمد علوش، فكل الشخصيات التي تنطحت لزعامة المعارضة تتحمل المسؤولية عن سلوك كل فصائل الثورة، وحجة أنها لم تمتلك سلطة عليهم، هي تهمة تضاف لهذه الهيئات التي ادعت أنها ممثلة لقوى الثورة ومظلة سياسية لها، فالطبيعي أن تقوم بمهمتها وتتحمل مسؤوليتها، فإذا عجزت عن القيام بواجباتها تطلب ذلك منها أن تستقيل فوراً من منصبها لا أن تستمر فيها وتجني الثروات وتتنصل من مسؤولياتها معاً، وعدم استقالتها وإصرارها على البقاء في القيادة والانتفاع منها يستوجب حتماً تحميلها المسؤولية ليس فقط الأخلاقية بل القانونية أيضاً، فالمحاكمة يجب أن تضع كل هؤلاء في قفص الاتهام، والأحكام يجب أن تطالهم جميعاً بحسب درجات المسؤولية ، لا أن تقتصر على شخص إسلام علوش.




من صفات القانون أنه يطبق على الجميع وبالتساوي، وعلى جميع الأفعال التي تحمل ذات الصفة، والمؤسف في الموضوع أن القضاء الفرنسي لم يتحرك بهذا السبب (النظر في انتهاكات حقوق الإنسان السوري) بل بسبب قضية رزان فقط كما يبدو لي حتي الآن، والتي كانت تنشط في منطقة جيش الإسلام وترصد الانتهاكات وترسل التقارير التي لا بد أن تظهر في سياق المحاكمة، وهو السبب الذي جعلها تتلقى الدعم المادي والرعاية الفرنسية (مشاركتها عبر السكايب وإلقائها كلمة المعارضة في مؤتمر أصدقاء سوريا المنعقد في فرنسا عام ٢٠١٢ بحضور شخص الرئيس هولند)، ونشاطها هذا هو من جعل جيش الإسلام يهددها للتوقف عن إرسال تقاريرها، ثم دفعه لاختطافها أو للتواطؤ على ذلك بعد تلقيها مبالغ مالية كبيرة عن طريق الائتلاف (2 مليون دولار قبل اختطافها بفترة وجيزة)، فقد سبق وحذّرت السلطات الفرنسية قائد جيش الإسلام من المساس بها عندما استدعي خارج سوريا، ثم هددته بالمحاسبة بعد اختطافها، وقد نقلت شخصياً هذا التحذير الموجّه من السفير الفرنسي يومها إيريك شوفالييه لشخص زهران عبر السكايب، أملاً في التراجع عن عمله وإطلاق رزان ورفاقها، والسماح لهم بمغادرة الغوطة، ولم أفلح في دفعه لإطلاق سراحها رغم أنني قبلت معه جدلاً أنه غير مسؤول، وطالبته على الأقل بالقيام بواجبه في المنطقة التي يحكمها ويعتبر مسؤولاً عن المدنيين فيها، على أمل أن يحاول مع الجهات الخاطفة تحريرها، والتي ربما كانت مراكز قوى داخل تنظيمه ذاته، كما سبق لي تحذير رزان من خطورة ما تقوم به والطلب منها مغادرة الموقع عندما تعرضت للتهديد أول مرة، لكن تلقيها تطمينات خارجية جعلتها تستمر ، فهذه الجهات الخارجية أيضاً تتحمل مسؤولية أخلاقية عن مأساة رزان، وهذا هو السبب الحقيقي لتحرك القضاء الفرنسي في هذه القضية تحديداً، والذي استدرج إسلام لقبضة العدالة الفرنسية بطريقة ذكية، مع أن هذا القضاء لم يتبن أي قضية ممثالة تطال انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وما أكثرها، بحجة عدم الاختصاص المكاني. أي أن العملية القضائية الفرنسية بشكلها الحالي وبدوافعها ما تزال محدودة واستنسابية، وقانونياً هي خارج حدود صلاحياته، طالما أنه لم يرتق لمستوى العدالة الجنائية الدولية المطلوبة، ولم يمدد مسؤولياته للنظر في جرائم الحرب، فهو قد استغل إقامة إسلام على الأراضي الفرنسية لتبرير قانونية صلاحية نظره في القضية، رغم أن هذا القضاء قد تطرق لتهم بجرائم حرب وضد الإنسانية وقعت على نطاق واسع لكنه لا ينوي النظر بها عموماً بل يخصص النظر بجرائم فاعل بعينه وهو ما يسمى الاستنساب والتربص.




أسوأ ما في القضية هو أن تقتصر المحاسبة على شخص بحجة محدودية الصلاحيات القضائية، وتغلق العدالة على قضية واحدة، لتموت حقوق الملايين ويفلت مئات ألوف المجرمين، فكل القضاء المختص دولياً معطل بفعل مجلس الأمن ذاته الذي لا يؤمن بعدالة مؤسسات الأمم المتحدة، والذي يضيف سوءاً عليها أن كل المشاريع الدولية لإيجاد حل سياسي تقفز فوق العدالة وتعطي مسبقاً لكل المجرمين حصانة ضد المساءلة والعقاب، بل تعطيهم الحق في الترشح لقيادة سوريا بعد الحل المنشود، أي أن هذا يشمل إسلام علوش أيضاً من حيث المبدأ الذي يتمتع بالحصانة ذاتها طالما أن محمد علوش وسليم إدريس وأحمد الجربا وو... وصولاً لبشار الأسد يتمتعون بها،



ما نريد قوله أن قضية رزان رغم أهميتها لا تقل ولا تزيد عن قضية ملايين السوريين، والاقتصار عليها هو شراكة في التغطية على بقية الجرائم، كما أن عدم توجيه التهم لبقية المسؤولين عن هذه الجريمة ومنهم من يحمل الجنسية الفرنسية أو الإقامة الدائمة على أراضيها هو ظلم استنسابي لشخص إسلام علوش، باسمه المستعار الذي يدل على نية التخفي والتهرب من المسؤولية، والتي تشيع في صفوف المعارضة المزيفة والحمقاء، والتي بدأت بتلمس رؤوسها بعد اعتقال إسلام، فماذا ستفعل لو فُتحت ملفات الفساد المالي أيضاً؟ واعتقل القضاء الفرنسي أحد من قادتها بتهم التزوير والاختلاس وخطف الفرنسيين وقبض فديات وتسهيل دخول الإرهابيين لأوروبا.


 

لا شيء يمنع القضاء الفرنسي من النظر في تلك القضايا إذا كان هدفه العدالة وليس الانتقام الاستنسابي، ولا من توقيف ومقاضاة مواطنين فرنسيين ومقيمين على أراضيها كانوا مسؤولين عن اسلام علوش ومسؤولين عن جرائم أخرى، لنكون له من الشاكرين.


د. كمال اللبواني - كاتب وسياسي سوري

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!