الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
متلازمةُ القهرِ العربي
عبير نصر

منذ البداية افتقدتِ الثورةُ السورية إلى جبهةٍ قوية ومتناغمة، توحد مطالبها مع المجتمع الدولي، وتشكل لوبياً ضاغطاً لإنهاء الصراع وحلّ الملف السوري. وعوضاً عن ذلك اختلطتِ الأوراقُ فيها، وتشابكتِ الأحداث، وتعقّدتِ الأوضاعُ المعيشية والاجتماعية، لتغدو الأزمةُ السورية إلى جانب القضية الفلسطينية واحدة من أكبر أزمات العالم الحديث. وبعد عقدٍ كاملٍ على اندلاعها ما يزال كثيرٌ من عرّابي المعارضة السورية يتهربون من الاعتراف بالهزيمة، متذرّعين بأنّ الخراب طال كل شيء، وبأنّ ليس ثمّة منتصر أو مهزوم في صراع وجودي مع نظامٍ فقد شرعيته وعموميته، بينما هم أنفسهم ما يزالون يتخبطون في مستنقعِ مفاوضاتٍ مذلة، ويستسلمون لتنازلاتٍ عن حقوق الشعب السوري، في ظلّ توازن قوى بات يميل بشكلٍ صارخ لمصلحةِ النظام وحلفائه. متلازمةُ


فقوى المعارضة الموجودة في الداخل السوري، تتكون من كتلةٍ هشّة، منقطعةٍ عن ممارسة السياسة منذ زمن بعيد، ومنقسمة على نفسها لاعتباراتٍ شخصية أكثر منها سياسية، وليس لها امتداد في المجتمع السوري. في وقتٍ انتحلتِ المعارضةُ الخارجية فيه خطاباً غوغائياً، تكمن أسبابه أساساً في الجهل والفقر المعرفي وعدم الدراية الوطنيّة، فضلاً عن محرّك الحقد على النظام، من دون الانتباه إلى أنّ الحقدَ موجّهٌ سيء في السياسة. أما خروج النظام السوري من المعادلة تماماً، بعدما بات ملف الدولة بيد موسكو وطهران، يُظهر للقاصي والداني، أنّ وقوف الأسد في وجه الانتفاضة السورية لا يستند إلى قوةٍ ذاتية، وإنما إلى طبيعة القوى الإقليمية والدولية التي تخشى حدوث تغييرات جذرية لا تخدم مصالحها الحيوية في المنطقة "ما بعد الأسد"، محوّلة البلاد لرقعةِ شطرنج أنزلت جبهات الصراع أحجارها عليها ضمن خططٍ واستراتيجياتٍ تتعلق بمصالحها أولاً وأخيراً.


وربما أهمّ حسنات ربيع الثورات العربي أنّه كشف التفاهمات السريّة والعلنية، كذلك التوافقات الظاهرة والمستترة بين الأنظمةِ الدكتاتورية العربية وإسرائيل، والتي تتلخص في القلقِ المشترك من الحالةِ الديمقراطية التي تجتاح المنطقة حالياً، والمطالبات الجماهيرية الشعبية في التغيير، والتخويف مما تمخّض أو ما يتوقع أن يتمخّض عنها تباعاً، ومحاولة كلّ منهما دعم بقاء الآخر. كما كشف زيفَ المقاومة والممانعة اللتين لطالما تشدقتْ نظمٌ عربية ديكتاتورية بهما، في حين أنّها أسهمت لعقودٍ في حمايةِ الأمن القومي لإسرائيل، ولعلّ خوف الأخيرة على أمن بلادها، وتحسبها لانفراطِ ما يسمى باتفاقياتِ السلام العلنية التي كانت موقعة مع دولٍ مجاورة لها، أو تفاهماتها السرية مع دولٍ أخرى لحفظ الأمن المتبادل أيضاً، هو سبب تشنيع الكيان الصهيوني على هذا الربيع، وسبب تحذيراته من سقوط ِأنظمةٍ كانت تُصنّف على أنّها معادية له. سورية كأوضح مثال. متلازمةُ


وفي ظلّ هذا الواقع المزري الذي تتلاطم داخله موجاتُ التشاؤم واليأس والانهزامية التي يشهدها العالمُ العربي بأكمله، والسوريون خاصة، بعد فشل أغلب ثورات الربيع العربي، تأتي الهبّةُ الشعبية الفلسطينية الثالثة انتفاضةً كاملة الأوصاف ومطابقة للمعايير القياسية، ضد الظلم والقهر والاستبداد، بعد سنواتٍ عجاف من الشلل السياسي والوطني الكامل. لتثبتَ مجدداً أنّ الأجيالَ تتعب لكنها لا تموت. فجيلُ انتفاضةِ الحجارة تعب في منتصف التسعينيات وتنحى جانباً، لكن سرعان ما صعد الجيلُ الثاني في انتفاضة عام 2000، وهو الجيل الذي تعب لاحقاً لكنه ما مات، ليأتي اليوم جيلٌ جديدٌ من الشباب الفلسطينيين الذين يتصدّون للاحتلال الإسرائيلي، معززاً بتغطيةٍ إعلامية واسعة وتعاطفٍ عالمي منقطع النظير سيغيران أصول اللعبة لا شكّ.


وبحسب المصادر، اندلعتْ مواجهاتٌ مع الشرطةِ الإسرائيلية قرب باب العامود في شرق القدس عقب تفريق عشرات المعتصمين الفلسطينيين من المكان بالقوة، بعد الاعتداء عليهم واعتقال عدد منهم. وأكدت ذاتُ المصادر على إصابةِ العديد من الفلسطينيين بالاختناقِ والرصاص المطاطي خلال مواجهاتٍ في قريةِ بدرس غرب رام الله، وعلى حاجز حوارة جنوب نابلس، ومناطق أخرى في الضفة الغربية. وفي السياق ذاته، تظاهر مئاتُ الفلسطينيين عند الأطراف الشرقية لقطاع غزة قرب السياج الفاصل مع إسرائيل، وسط مواجهاتٍ متفرقةٍ مع قوات الجيش الإسرائيلي المرابطة خلف السياج. لتقرّر الفصائلُ الفلسطينية في غزة تفعيل عمل ما يعرف بـ "الأدوات الخشنة"، والتي تشمل إطلاقَ البالونات الحارقة والمتفجرة تجاه مستوطنات إسرائيلية محاذية للقطاع، بالإضافة إلى استئنافِ التظاهرات الليلية قرب السياج الفاصل.


وارتبطتْ خلفياتُ الهبّة الشعبية، بمحاولاتِ الاحتلال الاستيلاء على منازل فلسطينيين في حيّ الشيخ جراح شمال مدينة القدس المحتلة، وتهويدها، وهو ما واجهه الأهالي بإصرارٍ شديد، لتتزامنَ الأحداثُ لاحقاً مع انتهاكاتٍ بحقّ المسجد الأقصى والمصلّين في شهر رمضان المبارك. وتأتي هذه الانتفاضة في وجهِ محاولاتِ تهويد القدس من جانب جماعاتٍ من المستوطنين بحجة أنها كانت مملوكة لليهود في القرن التاسع عشر. وكانت إسرائيل قد أعلنت إزالةَ الحواجز الحديدية من منطقة باب العامود في مدينة القدس، وهي الخطوة التي اعتبرتها الفصائل الإسرائيلية انتصاراً لها، بعدما تسبّبت الاشتباكاتُ في إصابةِ أكثر من مئة فلسطيني.


وبالعودة إلى ما كان يحصل في الآونة الأخيرة، اعتمدتِ الاستراتيجيةُ الإسرائيلية على إهمال الفلسطينيين، ورضوخ كلّ دولة عربية، على حدة، لنوعٍ من العلاقات مع إسرائيل، ما سيغيّر تدريجياً خريطة المنطقة السياسية، فتصبح إسرائيل الأصيلة وفلسطين الدخيلة، ويُحاصر أهلها، فلا يبقى سوى الخنوع والاستسلام. كذلك عمدت إلى تفكيكِ مركزيةِ القضيّة الفلسطينية في الخطاب والوعي العربيين، مدخلاً إلى تطويعِ الفلسطينيين، واكتمالِ المشروع الصهيوني تحت شعار (التعايش والسلام). واستفادت إسرائيل من اتفاق أوسلو في كسر شبه عزلةٍ عالميةٍ كانت تواجهها، لإقامة علاقاتٍ مع دولٍ لم تكن تعترف بإسرائيل، كما استعادتْ علاقاتها مع دولٍ كانت قد قُطعت بعد حرب 1967. متلازمةُ


ولا شكّ أنّ الانتفاضةَ الفلسطينية الجديدة، تمثل تصدّياً مباشراً لمحاولة إسرائيل الاستفادة من الوضع العربي المتردي. فالإسرائيليون يصعدون من عمليات الاستيطان، والاعتداء على المسجد الأقصى محاولين استغلال تحييد مصر وانشغالها بأزمتها الداخلية، وتورّط حزب الله في سوريا، وانهيار الدولة السورية بما فيها الجيش، إضافة إلى انشغال دول الخليج بالحرب في اليمن. ما يعني أنّ اسرائيل كانت تقرأ المشهدَ في المنطقة العربية على أنّه الفرصة التاريخية الأهم من أجل الانقضاض على الأرض والإنسان ليس في فلسطين فحسب، بل على امتداد الأمة العربية.


في المقابل النظرة المجرّدة لجوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتطوره وما ينطوي على إيمانِ الشعب الفلسطيني بحقّه وتمسكه بأرضه، غيّر قواعد الصراع. وهذا الكلام حقيقة اعترف بها رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، إسحق رابين، فرغم أنّه كان صاحب نظرية تكسير عظام الفلسطينيين عندما كان وزيراً للدفاع أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في الفترة ما بين 1987 إلى 1991، إلاّ أنه برّر قبوله لاتفاق أوسلو واستعداده للانسحاب من مساحاتٍ واسعة من الأراضي المحتلة بقوله: (أدركت أنّ هناك حدوداً لما يمكن أنْ أحطمه من عظام، وبالتالي لم يكن هناك مفرّ من الجلوسِ مع الفلسطينيين وتقديمِ التنازلات لهم). وفي الحقيقة كلّ انتفاضة مستجدّة تكشف بصورةٍ واضحة لا لبس فيها الدورَ المشبوه للأنظمة الديكتاتورية العربية، وبخاصة من كانت منها تدّعي الممانعة والمقاومة، واضطرت إسرائيل لهذا السبب الدفاع عن بقاء هذه الأنظمة المتواطئة المستبدة، وحذّرت علناً من مغبّة سقوطها الوشيك. متلازمةُ


ليفانت : عبير نصر ليفانت 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!