الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
ما بين إدوارد سعيد والسوريين
ما بين إدوارد سعيد والسوريين

ماجد ع محمد




بالرغم من أن المفكر والمنظّر الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد المولود وفق الموسوعة الحرة في 1935؛ توفي في عام 2003، أي قبل اندلاع الثورة السورية بثماني سنوات، إلاّ أن ثمة هاجس مشترك يربط سعيد بمئات الآلاف من السوريين على اختلاف مشاربهم وولاءاتهم السياسية؛ ومع أن سعيد لم يرى قط ما فعله نظام البعث بالشعب السوري، من قتل وتدمير وتهجير، إلاّ أنه ربما كان يتوقع كل سوء من هذا النظام الفتاك، وإلا لما تجاهل مطالب النظام بالمجيء إلى سورية لاستثماره كما فعل مع غيره من نجوم الإبداع.




إذ حسب الناقد السوري صبحي حديدي، أن الراحل رفض دعوات السلطة السورية له من جهات عدة، منها: "مكاتب حافظ الأسد، ثمّ وريثه، وقيادة حزب البعث، والنائبة للشؤون الثقافية نجاح العطار" أو حكومية، ومنها "وزارات التعليم العالي، والثقافة، والإعلام" وكذلك الأمر من المؤسسات المرتبطة بالنظام "اتحاد الكتّاب، واتحاد الصحافيين، ونقابة المعلمين، واتحاد الطلاب"*، في الوقت الذي كان الكثير من أهل الفن والكتابة يتمنون نيل ولو جرعة صغيرة من الاهتمام بهم من قبل الخاقانات في عاصمة دولة الامويين، أو تكريمهم ولو من قِبل أصغر مؤسسة من مؤسسات النظام السوري في زمن الأسد الأب أو الابن قبيل الثورة.




وحقيقةً فالذي يلفت إنتباه القارئ إلى ذلك الهاجس المشترك بين إدوارد سعيد، ومئات الآلاف من السوريين هو الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو، الذي لمّح إلى أسباب المشقة التي كان يعيش فصولها سعيد كلما اضطر إلى السفر من بقعة ما في مغتربه إلى مكانٍ آخر، وذلك في كتاب كليطو "بحبر خفي"، الذي أشار فيه إلى أن تلك المشقة الطوعية التي تمثلت بحمل سعيد لأكبر كمية ممكنة من أغراضه في حقائب كبيرة أثناء تنقله في أمريكا بسبب سطوة هواجس اللاعودة، وحيث أن تلك المخاوف التي عايشها المفكر الراحل واحتلت مساحة لا بأس بها في لاوعيه، يمكن أن نسقطها في الوقت الراهن على حياة مئات الآلاف، إن لم نقل الملايين من السوريين المنتشرين في لبنان والسعودية ومصر والأردن وتركيا والعراق، إضافةً إلى النازحين عدة مرات داخل سورية، الذين أجبروا على ترك منازلهم فجاةً وكل واحد منهم كان يتصور بأنه عائد بعد عدة أيام إلى منزله، إلا أن الأيام طالت شهوراً، والشهور امتدت لسنوات وهم على قلقٍ دائم، ليس بسبب ما فقدوه لأول مرة فحسب، إنما بسبب خشيتهم الدائمة من تكرار الحالة من جديد في المناطق أو البلاد التي لجؤوا إليها مرغمين.




من كل بد أن الكثير من السوريين المقيمين في اسطنبول راودهم نفس الاحساس الذي راود سعيد، وذلك بعد أن تركوا بيوتهم في سورية عدة مرات على مضض، وهم ينزحون من حارة إلى حارة أو من قرية لأخرى أو من بلدة لمدينة أبعد منها، إلى أن انتشروا في بقاع العالم ومايزال قلق الترحال المفاجئ لا يفارق مخيال الكثير منهم، خاصة وأن بعض البلاد التي صارت تتأفف من وجودهم على أراضيها، راحت تختلق شتى السبل وتسن القرارات الخاصة بالسوريين للتضيق عليهم، علّها تُرجِع كل من لم يتوافق مع مزاج ومناخ ذلك المغترب الذي اتّخذ منفىً اختيارياً على أمل الاستقرار إلى حين أو العودة بعد حين.




ولأن البلاد التي انتقلوا إليها ضاقت بهم، لذا تراهم في الحل والترحال يحملون كل ما يقدرون على تعتيله خوفاً من وساوس اللارجوع والفراق المفاجئ، حيث أنهم كما الفلسطينيين الذين غادروا الديار منذ ما يزيد عن نصف قرن، وكلهم شوقٌ أوان المغادرة إلى الإياب بأقرب فرصة ممكنة؛ ففي سوريا تركوا كل أمتعتهم وأغراضهم الشخصية مكرهين بسبب الهجمات العسكرية على مناطقهم، أو بسبب قرب بيوتهم من خطوط التماس أو وقوعها وسط مناطق الاشتباكات، وترك كل واحد مرتعه على أمل العودة اللاحقة، العودة التي لم يفلح بها حتى الآن 1 بالألف من السوريين، العودة التي لم يعد يسعى إليها الكثير ليس كرهاً بالوطن، ولا استصغاراً لتلك المنازل المتواضعة، إنما لعدم توفر أدنى شروط الحياة فيها حتى زمن كتابة هذه المادة، وذلك بسبب غياب الأمن والأمان الشخصي والعائلي وحتى المجتمعي، إضافة إلى عدم توفر فرص العمل والوقوف التام لعجلة الاقتصاد في معظم مناطق البلد.




لذا فلعل ما خالج النازحين الفلسطينيين الذين فارقوا قراهم على أمل الرجوع إلى الديار، هو نفس ما يشعر به الآن ملايين السوريين، إذ حمل الفلسطينيون المهجرون من منازلهم مفاتيح بيوتهم منذ أيام نكبة 1948 هرباً من مجازر عصابات الحركة الصهيونية، حملوها معهم أينما حط رحالهم على أمل فتح البيوت بها من جديد والولوج إلى مخادع الذاكرة بعد الرجوع إليها، وحيث كانوا يأملون العودة بعد أيام أو شهور، إلا أن الشهور غدت سنين والأعوام طالت عقودا، ولا شك أن الانتظال طال أكثر بكثير مما توقعوه، إلا أنهم رغم ذلك لم يفقدوا الأمل قط، وقد استحال "المفتاح" أيقونة، وتحول المفتاح الحديدي إلى رمز في معظم الأنشطة والفعاليات الثقافية والسياسية، الأيقونة التي صارت تقض مضاجع مَن كان وراء نزوح أصحابها عن مرابعهم.




وفي هذا الصدد ربما لم يخطر على بال طواقم الأعمال الدرامية العربية الذين تناولوا محنة النازحين الفلسطينيين في الكثير من أعمالهم المميزة، بأن المحنة ستتكرر في مكان آخر، مع أناسٍ آخرين، وربما لم يتصور العاملون في دراما التغريبة الفلسطينية الذين نجحوا بامتياز في تمثل ومعايشة معاناة الفلسطينيين في التغريبة الكبرى، أن الملايين من أبناء سورية سيتجرعون من نفس الكأس الذي تجرع منه الفلسطينيون قبلهم في المغادرة المفاجئة والمكروهة لمرابع آبائهم وأجدادهم؛ إلاّ أن الموجع أكثر بالنسبة للسوريين، هو أنهم هُجروا من قِبل سوريين آخرين، من قبل أشقائهم الأعداء، بينما الفلسطينيون فقد هُجروا على يد عصابات الهاغانا ومثيلاتها.




ولا شك أن الصدمة الأولى للسوريين شكلت جرحاً غائراَ ليس في أجسادهم المتلظية فقط، إنما كذلك في أرواحهم وهواجسهم بسبب فقدانهم لكل ما امتلكوه على مدار السنين خلال لحظات، وحيث كانت الصدمة الأولى وراء ظهور توجه جديد لدى طائفة كبيرة من الشعب السوري في المغتربات، ألا وهو نفور معظمهم من إكثار شراء الأمتعة أو المقتنيات والأغراض المنزلية، وذلك خشية من أن يحصل لهم في قادم الأيام ما حصل معهم في بلدهم، وحيث كان بعضهم قد وضع جنى عمره كله في البيت أو المعمل أو المحل، ومن ثم تركوه من دون سابق إنذار، وكأن عاصفة بحرية هوجاء ضربت سواحل حياتهم وأتت على كل ما كانوا يمتلكونه بضربة واحدة، ومن ثم وبعد أن ضمدوا جراحهم ودسوا في جيوبهم ما كانوا قد ادخروه أو ما لم تطله ألسنة الحرب في البلد، بدؤوا في بلدان اللجوء ببناء حياتهم الاقتصادية من جديد، إلا أنه سرعان ما تداعت المداميك المشيّدة بعد جهدٍ جهيد من قبل الكثير منهم، ولكن ليس بسبب المعارك والخراب والدمار هذه المرة، إنما من خلال قوانين استثنائية كانت كفيلة بإعطاب مشاغل الآلاف منهم خلال بضعة قرارات.




على كل حال فإذا كان عبدالفتاح كيليطو قد شبّه سعيد في مادته عنه بالحمّال لكثرة ما كان يحمله من الأمتعة والحقائب الكبيرة، فإن الكثير من السوريين بالعكس منه راحوا يفكرون جدياً بتخفيف الأمتعة قدر المستطاع، إلاّ أن أثقالهم تبقى مضاعفة، لأنه غير المقتنيات المادية باتوا يحملون هموم عظيمة لا تُحمل إلاّ على المتون الفسيحة لبواخر الذاكرة.

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!